ما تسمّى “مصالحة” بين أنقرة والنظام السوري مرشّحة لأن تحصل، ولو في أدنى الدرجات. أولاً، لأن لروسيا مصلحة في مواصلة اجتذاب تركيا واكتسابها إلى جانبها في مغامرتها الأوكرانية التعيسة. ثانياً، لأن لتركيا مصالح عديدة من تحييد الأكراد أو إضعافهم إلى التخفّف من أعباء اللاجئين التي باتت تثقل على الحكم الأردوغاني وفرصه الانتخابية. ثالثاً، لأن نظام بشار الأسد انتقل من مرحلة “الانتصارات” التي لم يستطع استثمارها في تعزيز الدولة وتجاوز الأزمة، إلى مرحلة الاختناق الاقتصادي والمالي التي ضاعفت من إفقار مناطق سيطرته وخفّضت مكانته المعنوية في بيئته الموالية، ولذلك يحتاج النظام إلى أي جرعة إنعاش بعدما تقلّصت قدرة الحليفين الروسي والإيراني على دعمه.
من الطبيعي أن يتظاهر السوريون حيثما يستطيعون للتعبير عن استيائهم إزاء مشروع “المصالحة” هذا، والمؤكّد أنهم يتشاركون، معارضين وموالين، لاجئين ومهجّرين ومشرّدين تحت الخيام، الشعور بأن تقارب الأنظمة الثلاثة لا بدّ من أن يكون على حساب قضيتهم، وأن يدوس على تضحياتهم وعذاباتهم المستمرّة. فمنذ بداية محنتهم فقدوا الأمل في النظام الذي بادر إلى سفك دمائهم، وبعدئذ سقطت رهاناتهم تباعاً على كل جهة متدخّلة، سواء كانت إيران أم روسيا اللتين أضافتا إلى وحشية النظام في الداخل، أم كانت دولاً غربية باحثة بدورها عن مصالح لا عن حماية الشعب السوري ولا عن إنقاذ سوريا نفسها. وإذ كان لتركيا مسلك آخر في البداية، إلا أنها اتّبعت منذ 2016 نهجاً آخر تركّز على احتواء “الثورة” وإدارة هزيمتها، متظاهرةً بأنها متمسّكة بشروط المجتمع الدولي وعقوباته بحثاً عن حلّ سياسي وفقاً للقرار 2254، لكنها انزلقت شيئاً فشيئاً إلى “الحلّ الروسي” (- الإيراني) الذي يقوم أساساً على إبقاء نظام بشار الأسد، مع علم جميع الأطراف بأن لا حلّ بوجود هذا النظام أياً تكن الصيغ المطروحة لـ”تجميله” أو “شرعنته”.
على رغم مظاهر الاندفاع الروسي والتركي نحو إتمام “المصالحة”، فإن هذه لا تزال مصنّفة عملياً في باب “صدّق أو لا تصدّق”. واستناداً إلى ما يتسرّب من ثرثرات أبواق النظام وكتبته، فإن أوساطه متأرجحة بين مَن يدافعون عن الموقف العدائي المتصلّب حيال تركيا وضرورة التشدّد في التنازلات المطلوبة منها لقاء أي تقارب معها، وبين مَن يدفعون في اتجاه الانفتاح عليها شرط أن تكون هناك مكاسب محدّدة سلفاً ومضمونة.
ويتمسّك الرأيان بالشروط التي سبق للنظام أن طرحها على أي طرف دولي، وهي أن يتمّ أي تعاون أمني أو استخباري في إطار الاعتراف السياسي الواضح بالنظام والعلاقات الدبلوماسية العلنية. غير أن الاجتماع الثلاثي في موسكو لوزراء الدفاع ومديري الاستخبارات شكّل خطوة جدّية متقدّمة لم تخلُ من المفاجأة، حتى للقريبين من النظام الذين واصلوا النقاش حول صواب التصالح الآن مع أردوغان أو انتظار الانتخابات التركية علّه يخرج منها خاسراً أو ضعيفاً، أي أكثر استعداداً لتقديم تنازلات.
ليس واضحاً ما الذي يعوّل عليه معارضو “المصالحة” وقد علموا منذ شهور بأنها إرادة روسية معلنة تبنّاها فلاديمير بوتين شخصياً وبذل جهداً لإقناع رجب طيب أردوغان بها، وبالتالي لا يمكن نظام الأسد أن يقاومها إلا إذا كانت لديه وسائل بديلة لمنع تركيا من القيام بعملية عسكرية لتوسيع “المنطقة الآمنة”، أو بمعنى أدقّ لإبعاد أكراد “قسد” عن مناطق يسيطرون عليها حالياً. وعدا أن النظام لا يستطيع إحباط هذا المسار، فإن لديه فرصاً لتحقيق أهداف تاق إليها منذ أعوام (استعادة السيطرة على مناطق جديدة والعودة إلى مراكز حدودية كان طُرد منها) إذا كان لهذه الأهداف أن تعني شيئاً في الحال الراهنة للنظام، وإذا كان ممكناً افتراض أن لديه قوات كافية للحلول مكان القوات الكردية، أو أن لديه محروقات كافية لإرسالها شمالاً ومن ثم لتأمين تحركاتها. فالمناطق التي استعادها النظام جنوباً في إطار ما سُمّي “مصالحات” (برعاية روسية!) فشل في التصالح معها فعلاً كما في إعادة شيء من الاستقرار إليها. أما المنافذ الحدودية مع العراق ولبنان فتركها النظام مرتعاً لتهريبات حلفائه الإيرانيين، وأما المنفذ مع الأردن فجعله مرتعاً لعصابات الكبتاغون وغيره.
إذا أتيح لنظام الأسد أن يستعيد السيطرة على المعابر الحدودية مع تركيا فهل يستطيع، أو هل يرغب في توفير الضمانات التي تتطلّع أنقرة إليها بضبط الأكراد أو “الجماعات الإرهابية” كما تسمّيهم، وهل الوجود الروسي يكفي لضمان حسن سلوك النظام، أم أن الأخير سيستأنف مناوراته القديمة المتجدّدة للعب على الأتراك والأكراد معاً؟ كل شيء يتوقف، وفقاً لبعض المصادر، على اقتناع النظام بأن “المصالحة” مع تركيا صفقة جيدة لتعزيز وضعه كحُكم معترف به من جانب دولة مجاورة قوية متعاونة مع “الحليف الروسي” ومحافظة على عضويتها في حلف الأطلسي. وإلى جانب المكاسب السياسية التي يطمح إليها النظام، فإنه يتطلّع إلى “تطبيع” كامل للعلاقة مع تركيا يمكن أن يخفّف من وطأة أزمته الاقتصادية والمالية. هذا يفترض في نظر النظام أن تتخلّى تركيا عن التزامها العقوبات الدولية والأميركية، بل أن تبادر إلى كسر هذه العقوبات وأن تتحمّل التبعات على اقتصادها المرهق أصلاً، أو أن تحاول الحصول على استثناءات أميركية بذريعة ضرورات أمنها القومي. وهذه إشكالية لا يبدو أن أنقرة تملك حلولاً لها، إلا إذا توصّلت مع واشنطن إلى تسوية تمنع المسّ بالوضع الأميركي – الكردي في شرق الفرات من دون أي تساهل أميركي في معاودة النظام الحصول على حاجته من النفط في حقول دير الزور. لكن تسوية كهذه لا تنسجم مع طموحات موسكو وطهران ودمشق لإخراج الأميركيين من تلك المنطقة.
يدرك نظام الأسد أن “المصالحة” المزمعة تتطلّب منه تنازلات رفضها على الدوام، ولم يسبق أن تعرّض لضغوط روسية حقيقية لقبولها، وكان ولا يزال يعوّل على “الحليف الإيراني” لمواصلة تعنّته. وإذ تقول أنقرة إن “المصالحة” تقوم على مكافحة الجماعات الإرهابية والتقدم في الحل السياسي وإعادة اللاجئين، إلا أن موسكو ودمشق لم تعلّقا على النقطتين الأخيرتين. واللافت في التحرّكات الراهنة هو غياب إيران الذي لا يعني أنها راضية وموافقة، بل إنها تراقب وتعرف حدود ما سيكون، ومتى استشعرت خطراً على مصالحها فإنها تستطيع أن تخرّب أو تعطّل أي مسار، لأن الأسد نفسه لا يستطيع اتخاذ أي قرار من دون موافقتها.
المصدر: النهار العربي