شهدت موسكو، في 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اجتماعاً بين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ونظيريه التركي خلوصي آكار والسوري علي محمود عباس، ووفقاً للوزير التركي، فإن الاجتماع الذي ناقش سبل حل الأزمة السورية ومشكلة اللاجئين والمكافحة المشتركة للتنظيمات الإرهابية في سوريا قد دار في أجواء إيجابية، والجدير بالذكر أنه قد سبقه منذ أشهر لقاء قصير بين وزيري خارجية البلدين، ويدور الحديث الآن عن احتمال عقد قمة بين الأطراف الثلاثة.
وعندما يسترجع أحد مدى الخلاف والعداء بين حكومة رجب طيب أردوغان والنظام السوري، وكيف كان الأول الأعلى صوتاً في الهجوم على النظام السوري وتبني المعارضة ضده ولعب دور محوري في تسليح وتدريب هذه الفصائل المسلحة ثم توظيف هذه الأخيرة كأبرز الأدوات التركية في استراتيجيتها للعب دور إقليمي مؤثر، فضلاً عن المتاجرة بورقة اللجوء السوري لابتزاز أوروبا والحصول على منافع اقتصادية وسياسية عدة من الدول الأوروبية، وإضافة إلى كل ذلك، فإن مستوى اللغة السياسية والدعائية ضد النظام السوري كان هو الأشرس من دون شك مقارنة بأي طرف دولي أو إقليمي معاد للنظام السوري. وفى الحقيقة أن هذا الموضوع يعبر عن مجمل طبيعة النظام التركي الراهن، وحالة السيولة والتحولات الدولية والإقليمية.
علاقات تاريخية معقدة
لا يمكن إغفال بعد التاريخ المعقد والسلبي بين تركيا وسوريا، فذكريات الشام الكبير وتحديداً سوريا ولبنان كانت بالغة السوء تجاه فترة الحكم التركي العثماني، فبسبب الجوار الجغرافي والتعددية الدينية في هذه المنطقة ترسخت صورة بالغة السوء، عن حق، للاحتلال العثماني، وكانت حركات الاحتجاج والمعارضة في هذه البلاد هي الأشد ضد الدولة العثمانية، وخلافاً لمصر التي سمحت طبيعتها الجغرافية والسكانية بقدر من الاستقلالية ترسخت بعد وصول محمد علي لولاية مصر وتأسيس تركيبة سياسية خاصة داخل الخلافة العثمانية ومع قدر ملحوظ من الاستقلالية، لم يكن حال الأمر في سوريا ولبنان، وهو ما أدى إلى نزوح أعداد ضخمة من التجار والمثقفين الشوام إلى مصر، حيث استمتعوا بدرجة أوسع كثيراً من الحريات من القبضة التركية الغليظة، وعموماً، ومن دون الدخول في تفاصيل تاريخية، تكرست حالة عداء شديدة سورية ضد الحكم العثماني دفعت إلى تبلور حركة القومية العربية داخل سوريا بالأساس ضد الاحتلال العثماني، ولعبت هذه الحركة دوراً مهماً في الثورة العربية الكبرى وتحالفت ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وقد ترك هذا إرثاً معقداً وحساسيات ملحوظة لاحقاً بعد استقلال سوريا الحديثة وتحول أنقرة إلى دولة علمانية بفضل مصطفى كمال أتاتورك.
واستمر التباعد بين البلدين تحت عناوين عدة، مثل الانحياز التركي للغرب وعضوية “الناتو” في مقابل عدم انحياز سوريا ثم تطويرها علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفياتي ثم روسيا لاحقاً، والخلاف التاريخي حول ضم تركيا لواء الإسكندرونة العربي السوري إلى أراضيها، ثم أطماع تركيا في الموارد المائية المشتركة، وكان الرد السوري في ترتيبات مع المعارضة الكردية، ما وصل إلى توتر حاد واقتراب من مواجهة عسكرية دفعت مصر إلى وساطة في تسعينيات القرن الماضي، لم تنجح فقط ولكن فتحت الباب أمام توطيد وتحسن كبير غير مسبوق في العلاقات لقرابة عقد من الزمان بخاصة بعد تولي أردوغان الحكم، وذلك حتى جاءت الثورة السورية، ثم تحولت الأمور إلى أقصى مراحل العداء والمواجهة بعد تبني أنقرة المعارضة السورية المسلحة.
الملف الكردي من أبرز الدوافع
ودأبت تركيا، بخاصة في السنوات الأخيرة، على التهديد باجتياح منطقة شمال شرقي سوريا، حيث سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في ظل حماية القواعد الأميركية والغربية، وقد منعت هذه الحماية، ومعارضة كل من روسيا والولايات المتحدة الصريحة هذه الخطوة، أنقرة من تنفيذ مخططاتها، وكانت هذه المسألة مصدراً إضافياً للتوترات في العلاقات التركية – الأميركية في السنوات الأخيرة، ولا بد من ربط هذا الملف بآخر، وهو الانتخابات التركية وحاجة أردوغان إلى نصر أو مكاسب بخاصة بعد تعرض البلاد لبعض العمليات الإرهابية أخيراً، وفي كل الأحوال تتصدر هذه المسألة دوافع تركية في التحركات الأخيرة، لكن الترتيبات التي تمخضت عن هذا الاجتماع بين الأطراف الثلاثة في شأن كيفية التعامل مع الأكراد وكذلك في شأن عدم إقدام تركيا على عملية عسكرية أو انسحابها من الشمال السوري، أو خطوات سيتخذها النظام السوري، كل هذا ليست بالضرورة أموراً قد حسمت تماماً على رغم ما رددت بعض وسائل الإعلام السورية.
دوافع أخرى
ومنذ أن بدأت الاتصالات التركية – السورية بدأت التفسيرات الخاصة بالانتخابات التركية ومشكلة اللاجئين السوريين تقفز إلى الواجهة، بخاصة أن هناك استطلاعات رأي يعود بعضها إلى سنوات عدة، وأخرى حديثة تتحدث عن معارضة نسبة مرتفعة من الشعب التركي السياسات التركية تجاه سوريا، وكذلك، معارضتهم استضافة هذه الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين على رغم كل المنافع الاقتصادية التي حققتها بلادهم من خلال ابتزاز أوروبا بهذا الصدد، بل وتتحدث هذه الاستطلاعات عن عداء خاص ضد “الجيش السوري الحر”، وهذا العداء في الحقيقة موجه لجملة السياسات والمواقف التي تبناها أردوغان في شأن سوريا التي تعبر عن مزيج معقد من استخدام الإسلام السياسي المتطرف لتحقيق نفوذ ودور خارجي مشوه ومكروه إقليمياً ومن أوساط تركية عديدة، ويعد هذا الملف أحد أبرز ملفات المعارضة التركية، بخاصة “حزب الشعب” المعارض الذي طرح خطة من أربع مراحل لإعادة اللاجئين السوريين الذين يقدر عددهم بنحو 7.3 مليون نسمة. ومن ثم مع تراجع شعبية حكومة أردوغان وإعداده للانتخابات المقبلة، صيف هذا العام، تأتي تحولاته الواضحة للتراجع التدرجي عن هذه الاستراتيجية التي سببت تآكل علاقات تركيا الخارجية وتحديات داخلية كبيرة.
هل هي توجهات براغماتية؟
وتصب الدوافع السابقة في تفسير سلوك تقليدي متكرر من أردوغان يعكس براغماتية ونفعية اعتاد عليهما الرجل معظم فترات حكمه، لكن حجم الأخطار المتضمنة في المشهد الراهن يشابه، بل ربما يتجاوز مشهدين سابقين من المواجهة بين أنقرة وواشنطن، مرة حول اجتياح عسكري سابق كان على وشك أن يسبب أخطار مواجهة عسكرية بين الطرفين في منطقة شمال شرقي سوريا نفسها، وأخرى حول شراء أنقرة نظام دفاع صاروخياً روسياً متقدماً، وتراجعت أنقرة في الأولى، لكنها لم تتراجع في الثانية، وبخلاف ارتباط هذه التحولات بالملف الكردي الذي يعيد المواجهة مرة أخرى بين الحليفين، فإنه أيضاً يبدو خطوة أخرى في ترسيخ علاقات وثيقة تركية روسية، تبدو نشازاً في مشهد المواجهة الأميركية – الغربية ضد موسكو، كما تتضمن قدراً كبيراً من التحدي لواشنطن التي أعلنت صراحة على لسان المتحدث باسم الخارجية أخيراً عن معارضتها الصريحة أي تطبيع من نظام بشار الأسد.
في النهاية، تبدو أنقرة التي تتلاعب من سنوات بالطرفين الأميركي والروسي وتقترب من هذا حيناً ومن الآخر في حين آخر، يبدو تلاعبها الآن وكأنها لا تشارك واشنطن في أن مواجهة أوكرانيا الراهنة ستسفر عن تراجع وانكسار روسيا، ومن ثم يكون السؤال: هل حسابات أنقرة وصلت إلى هذا الحد؟ أم إنها تراهن على مناورات تحصل منها على منافع أميركية وغربية جديدة؟ سؤال ليس من السهل الإجابة عنه قبل أن تكتمل الاستدارة التركية نحو سوريا، ولا تتعطل في الطريق، بخاصة أن كل هذا يأتي في زمن ترسيخ نفوذ القوى الإقليمية المتوسطة الراهن والتي تبدو فيه إيران وتركيا من أكثر اللاعبين المتوسطين حظوظاً، لكن يحتاج الأمر إلى مزيد من الوقت لكي تتبدى آثار هذه التحولات دولياً وبالنسبة إلى الدور التركي.
المصدر: اندبندنت عربية