مع تسارع خطوات “التطبيع” بين تركيا والنظام السوري، بإعلان الأولى عن لقاء يجمع وزيري خارجية الطرفين الأسبوع المقبل، بعد اجتماع عقد في موسكو الأسبوع الماضي وضمّ وزيري الدفاع بحضور العرّاب الروسي، يحتدم الجدل بشأن طبيعة الخطوة التركية ومداها، وما إذا كانت تعكس تغيرًا عميقا في السياسة التركية من الأزمة السورية، أم هي مجرّد حسابات تكتيكية، آنية، مرتبطة بالانتخابات العامة المقرّرة في يونيو/ حزيران المقبل. من الصعب الإجابة بثقة عن هذه الأسئلة، حتى الأطراف المعنية لا تعرف على وجه اليقين أين سيقودها هذا المسار، نظرا إلى ارتباطه بحساباتٍ معقّدة لكل طرف وحجم التنازلات المطلوب منه تقديمها، فضلا عن وجود جهاتٍ أخرى مهمّة لم تحدد موقفها بعد من هذا التطوّر، وما إذا كانت مصالحها تقتضي الدفع به أم التخريب عليه، ونعني هنا تحديدا الولايات المتحدة وإيران.
إذا بدأنا أولا بالتنازلات التي يطلبها النظام السوري من تركيا، فهي تنحصر بثلاث مسائل جوهرية: التعهّد بالانسحاب الكامل من الأراضي السورية، وقف دعم المعارضة السياسية والعسكرية (مساعدة النظام على استعادة سيطرته على الأراضي التي تسيطر عليها تركيا وحلفاؤها)، المساعدة في إعادة الإعمار ورفض العقوبات الغربية على النظام. ترفض تركيا تقديم تعهد بالانسحاب من الأراضي التي تسيطر عليها شمالا، ولا يبدو أنها في وارد التخلي عن المعارضة من دون ثمن سياسي “محرز”، لكنها تريد، من جهة أخرى، مساعدة النظام في استعادة السيطرة على المناطق الواقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وإخراج الأميركيين، وفتح خطوط التجارة عبر سورية إلى الخليج ومصر وشمال أفريقيا.
حسابيا، تدور مصالح الحكومة التركية حول عاملين رئيسين: الأول مرتبط بالانتخابات المقبلة، وبالحاجة إلى تعاون النظام السوري في حل أزمة اللاجئين، عبر تأمين عودة آمنة للجزء الأكبر منهم، في ضوء ميل جزءٍ كبير من الشارع التركي للربط بين الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها ووجود نحو أربعة ملايين لاجئ سوري في تركيا. العامل الآخر مرتبطٌ بالدور الأميركي في سورية، إذ تعتقد حكومة الرئيس التركي، أردوغان، أن واشنطن تخطّط فعليا لإنشاء كيان كردي في شمال شرق سورية، بحجّة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وأنها تستهدف من خلال ذلك وحدة تركيا وسلامة أراضيها.
تتحكّم بحسابات النظام السوري، في المقابل، عوامل عدة. في البداية، كان النظام رافضا أي خطوة للتطبيع مع تركيا قبل انتخاباتها، على أمل فوز المعارضة، حيث سيكون أسهل عليه، كما يعتقد، التعامل معها، لكن عاملين أساسيين ساهما في تغيير موقفه: الأول الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ضربت مناطقه خلال الأسابيع الأخيرة بفعل تشديد العقوبات الأميركية من جهة وعجز حلفائه (الروس والإيرانيين) أو عدم رغبتهم بمساعدته، إلا بشروط. وقد برز ذلك خصوصا في اللغط الذي دار حول تأجيل (أو إلغاء) زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق، والتي كانت مقرّرة الأسبوع الماضي. وفي كل الأحوال، مع انتهاء المواجهات العسكرية الكبرى وزوال خطر السقوط، تقلصت أهمية الدور الإيراني بالنسبة للنظام، خصوصا في إطار خططه لإعادة الإعمار، فيما زادت أهمية تركيا (والخليج طبعا)، علمًا أن السيطرة الاقتصادية التركية استمرّت، على شكل سلع وبضائع، في ذروة المواجهات العسكرية، بما في ذلك في مناطق النظام، وهو أمر لطالما اشتكت منه طهران. العامل الآخر الذي دفع باتجاه تغيير الموقف من الانفتاح على تركيا هو فشل المفاوضات مع “قسد” بخصوص حل نفسها قبل الاندماج بقوات النظام ورفضها عودة هذا الأخير إلى مناطق سيطرتها. فوق ذلك، يبدو أن موسكو لفتت نظر النظام إلى أن فوز المعارضة التركية قد لا يخدم، بالضرورة، مصالحه، نظرا إلى العلاقة الوثيقة التي تربطها بواشنطن، وأنها في حال فوزها الأرجح أن تلتزم بالموقف الأميركي بخصوص العقوبات وإعادة الإعمار، وقد تذهب حتى باتجاه ترحيل الجزء الأكبر من اللاجئين السوريين إلى الداخل السوري من دون تنسيق مع النظام. أما إذا فاز أردوغان، وهو ما تتمنّاه موسكو وتفعل كل شيء لضمان حصوله، فسيغدو في موقف يصعب معه انتزاع أي تنازلٍ منه. لذلك من الأفضل الانفتاح عليه الآن.
مهما يكن الأمر، سيكون “التطبيع” بين النظام السوري وتركيا عمليةً صعبة ومعقّدة. ومهما كانت مخرجات الاجتماعات المجدولة بشأنها، فإنها ستبقى مرهونةً بنتائج الانتخابات الأكثر أهمية في تاريخ تركيا المعاصر.
المصدر: العربي الجديد