كان عمنا وشيخنا الشيخ سعاد جلال يرحمه الله واحدا من أعلام التجديد في الخطاب الديني، يكتب مقالا دائما في جريدة الجمهورية يشرح للبسطاء دينهم ودنياهم وعلاقتهما معا بأسلوب عصري وفكر مستنير ولغة راقية بسيطة وسهلة، وكان الرجل صديقا لصاحب محل أبو شقرة الكبابجي بشارع قصر العيني، وكنت أنا من مريدي الشيخ وأحب أن أشاكسه دوما، قلت له يوما أنت تكتب مقالك في الجمهورية للبسطاء علي رائحة الكباب والحمام المشوي ويأتيك ما لذ وطاب والبسطاء يتضورون جوعا ..قهقه ضاحكا، وقال أنا هنا أجلس خارج المحل وأكتب على الريحة أما صاحبك في الموقف العربي فعنده نفق من مكتبه لقلب المطعم مباشرة والعهدة علي صاحبه محمد عودة.. ضحكنا فأنا أعرف الشائعة التي أطلقها عمنا عودة علي عبد العظيم مناف بسبب كرمه الحاتمي فلقد كان الرجل يعزم رواد المجلة وزائريه من نجوم الصحافة والفكر من مصر والوطن العربي يوميا علي ما لذ وطاب من الكباب والكفتة لدرجة أن عودة قال له يوما: ” ايه يا عبد العظيم أنت عامل نفق لأبو شقرة تحت شارع القصر العيني شغال لحسابك؟”
كان موضوع هذا النفق مثار تندر من أصدقائه جميعا، حتي إنني سمعت عنه من رجاء النقاش عندما عرفني بعبد العظيم مناف يرحمهما الله لأول مرة.
فلقد عرفت الرجل بالصدفة البحتة نهاية السبعينيات عندما اصطحبني الفنان والناقد التشكيلي الراحل فاروق بسيوني يوما لمجلة الموقف العربي ليصرف مكافأة عن مقال له وعندما دخلنا إلى الدار كان عبد العظيم مناف يودع عمنا رجاء النقاش علي باب المكتبه ورآني رجاء فسلم علىَّ بحرارة وقدمني للرجل قائلا: “الشاب ده من الصحفيين الثقافيين الجيدين استفيد منه يا عبد العظيم” وقدمه لي عمك عبد العظيم مناف رئيس تحرير مجلة الموقف العربي وصاحب نفق الكباب الشهير وضحكنا جميعا واستقبلنا الرجل في مكتبه فاروق بسيوني الذي يعرفه وأنا، ودار حوار طويل عن الناصرية والردة الساداتية والعروبة والقومية كنت في تلك الأيام أميل للتنظير والتقعير شأني شأن أبناء جيل السبعينيّات وكان الرجل يعرض القضية بشكل عاطفي رومانتيكي، شأنه شأن الستينيين من الناصريين وتشعب الحوار وامتد لمدة أكثر من ساعتين لنستكمله في مطعم أبو شقرة للغذاء وعند عبورنا شارع القصر العيني قلت له ضاحكا: إحنا ماعديناش من النفق ليه ولا هو مخصص لكبار الزوار؟! ضحك الرجل وضحكنا وبدأت العلاقة تعاملت مع المجلة، وكتبت عددا من المقالات وبعدها سافرت إلى الخارج لأكثر من ثلاث سنوات سمعت أثناءها عن إغلاق الموقف العربي وعن اعتقال الرجل مع رموز الحركة الوطنية في سبتمبر، وعندما عدت بعد رحيل السادات كانت المجلة قد بدأت تستعد للظهور مرة أخري ولما كنت أدخل إلى المؤسسات الصحفية لأخرج منها فلقد نصحني عمنا كامل زهيري أن أذهب إلى الرجل فهو يستعد لإصدار المجلة من جديد بعد حصوله علي حكم قضائي، وبالفعل ذهبت إليه أنا والراحل صلاح القاضي ووافق الرجل أن أنضم لفريق المجلة ليؤيد اشتغالي بالمهنة لحل مشكلتي مع النقابة وأكون ضمن فريق العمل الأساسي واستمرت رحلتي معه لأكثر من ثلاثين عاما من العمل والإبداع والغلق والمصادرة والصدور من الخارج في الموقف العربي وصوت العرب حتي حصل في أوائل الألفية الثانية علي حكم قضائي بعودة الموقف العربي، رحلة طويلة من العمل الشاق والاتفاق والاختلاف والتوتر والمحبة والحميمية والوشايات و… و… رحلة أتمني أن أتمكن يوما من كتابة تفاصيلها كشهادة للتاريخ.
لكن ولأنني شاهد علي هذه الرحلة أعتقد أن أهم ملامحها بالإضافة إلى دور المؤسسة التي أنشأها عبد العظيم مناف في دعم الحركة الناصرية ودعم فكرة العروبة في مصر والتي كان يحاول من خلالها تحقيق شعاره المكتوب على لافتة دار الموقف العربي”صوت مصر في الوطن العربي وصوت العروبة في مصر”.
هذه التجربة أري أن من أهم ملامحها أنها فتحت الباب علي مصراعيه أمام نجوم السبعينيّات والثمانينيّات في الصحافة المصرية، فضلا عن الرواد الكبار الذين كتبوا في الموقف العربي وارتبطوا بها كفتحي رضوان وكامل زهيري ومحمد عودة ورجاء النقاش ومحمود المراغي ونجاح عمر وعبدالله إمام وعلي الراعي ونعمان عاشور ونجيب سرور وفؤاد حداد والفيتوري والطيب صالح ومحمد إبراهيم أبو سنة ومحمد المقالح ومظفر النواب ويوسف القعيد وجمال الغيطاني وحسنين كروم وضياء الدين داود وعبد الوهاب الزنتاني وفريد عبد الكريم وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود القاضي ومحمد مهران السيد وأمل دنقل ونديم البطار وعصمت سيف الدولة ومحمد الماغوط وغيرهم وغيرهم كثير, فتحت المجلة أبوابها لجيل السبعينيات الطالع والمصادر في الصحافة الرسمية فاحتضنت كتابات محمد السعيد إدريس ومصطفي بكري وجمال القصاص وحسن طلب وحلمي سالم ورفعت سلام وفاروق بسيوني وأحمد ثابت وضياء رشوان وأحمد عز الدين وعبد الله السناوي ومحمد حماد وعبد الحليم قنديل وحمدين صباحي وأحمد عبد الحفيظ وأحمد الصاوي ومجدي رياض وسيد حسان وسيد زهران وعزازي علي عزازي وغيرهم وغيرهم، وعدد كبير من كوادر مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام، بالإضافة إلى نجوم الثمانينيات مثل عبد الفتاح طلعت وخالد صلاح وعماد الدين حسين وطلعت إسماعيل وأشرف عبد الشافي وحمدي عبد الرحيم وسعيد شعيب وتهاني تركي وناهد السيد وبهاء حبيب وغيرهم كثيرون، والمتابع للحراك الصحفي منذ منتصف التسعينيات حتي قبيل ثورة 25 يناير سيلاحظ ان أغلب رؤساء تحرير الصحف المستقلة والحزبية كانوا من كوادرها الرئيسية من الموقف العربي أو صوت العرب وعدد كبير من رؤساء تحريرها أيضا. فلقد شكلت تجربتي الموقف العربي وصوت العرب الحاضنة المهنية لعدد كبير من نجوم الصحافة الحزبية والمستقلة، فإذا كان الروائيون الروس جميعا قد خرجوا من معطف جوجول، فإنني أكاد أن أجزم أن نجوم الصحافة الحزبية والمستقلة في مصر قد خرجوا من معطف الموقف العربي وصوت العرب، فلقد أعطي عبد العظيم مناف يرحمه الله الفرصة لعدد كبير من شباب الصحافة المصرية أن يشقوا طريقهم عبر المطبوعتين وأن يلتحق أغلبهم بنقابة الصحفيين من خلالهما, بل لقد كانت كوادر جريدة العربي لسان حال الحزب الناصري منذ نشأتها تقوم علي أكتاف كوادر الموقف العربي وصوت العرب بعد إغلاقهما في عهد مبارك مجددا. والقول بالقول يذكر
أعتقد أن مجلة الموقف العربي بالتحديد كان لها دور رائد في الاهتمام بالثقافة والإبداع العربيين من خلال استكتابها لكبار مبدعي مصر والوطن العربي، بالإضافة إلى قيام ملحق الأدب والفن الذي توالي علي الإشراف عليه مبدعون وصحفيون آمنوا بدور الإبداع الملتزم في تطوير وعي الأمة، فلقد أشرف علي هذا الملحق رجاء النقاش ومحمد مهران السيد ويوسف القعيد ويسري العزب وكاتب هذه السطور، ولعل أبرز ما قام به هذا الملحق هو كسر احتكار القاهرة للنشر الإبداعي ففتح الباب أمام المبدعين الحقيقيين في بر المحروسة في الدلتا والصعيد، ولقد تميزت الموقف العربي بكتابة أسماء المبدعين دون ذكر مدنهم أو قراهم كما كانت تفعل بعض الصحف, فهم مبدعون مصريون فقط يتساوون في الحق في النشر, ولقد نشر هذا الملحق أعمالا إبداعية لنجوم الإبداع خارج العاصمة من الاتجاهات الفنية والفكرية المختلفة دون تمييز في وقت كان يعاني فيه المبدعون من تقليص مساحات نشر الإبداع في الصحف والمجلات الكبري، فضلا عن تبني هذا الملحق قضية مواجهة التطبيع الثقافي بقوة لدرجة أن الملحق خصص منذ تولي يوسف القعيد الإشراف عليه باباً بعنوان ضد التطبيع استمر حتي توقف المجلة عن الصدور، ولقد أسهم هذا الباب في فضح المطبعين عبر سنوات وسنوات.
ومن طرائف هذا الباب أن أحد المطبعين رفع قضية علي المجلة يتهمها بالسب والقذف في حقه لأن الباب فضح الرجل الذي نشر عملا إبداعيا في إسرائيل وطالب الحركة الثقافية بإدراجه علي قوائم المقاطعة … ولأن المطبع يعتبر إسرائيل دولة تربطها علاقات دبلوماسية بمصر فهو يري أنه لم يرتكب جريمة وأي مطالبة بمقاطعته هي من باب السب والقذف وقطع الأرزاق .. ولما كنت أنا محرر الباب فلقد طلبت من عمنا عبد العظيم مناف أن أحضر أنا تحقيقات النيابة فرفض وقال: أنا رئيس التحرير، وأي كلمة من غير إمضاء أنا المسئول عنها، وبالفعل حضر التحقيق وفي المحكمة قدم المحامي الصديق سيد شعبان حافظة مستندات بها قرارات مؤتمر مصر في الأقاليم بإدانة أي كاتب ينشر إبداعاته في إسرائيل ويدعو لمقاطعته واعتبر القاضي أن موقف المجلة تنفيذ لقرارات المؤتمر الذي يعبر عن أدباء مصر جميعا, وحكم ببراءة الموقف العربي من تهمة السب والقذف.
تجربة ثرية تستحق التوثيق والتسجيل والدراسة والتحليل لأنها جزء لا يتجزأ من ذاكرة الوطن ورجل يستحق أن يكتب عنه وعن دوره الكثير، لأنه بلا شك كان صانعا للنجوم وللأمل من مكتبه الذي يحتل شقة صغيرة في شارع القصر العيني اكتشفنا أنها لا تضم نفقا للكباب …ولكنها كانت مليئة بالمحبة والأمل والكفاح والكرم.
رحم الله عمنا عبد العظيم مناف صانع هذه المؤسسة المكافحة المناضلة التي قدمت الكثير للوطن وللصحافة المصرية والعربية.
المصدر: مجلة المصور/بوابة دار الهلال