في مقابلتي الأولى مع المرحوم محمد حسنين هيكل في يناير 1990 سألته: مَنْ مِنْ أبناء الزعيم الراحل يشبه أباه، أو أقرب اليه، نظر اليَّ الأستاذ، وقذفني بجوابه بسرعة لم أتوقعها: أتعرف أنه لم يسألني أحد هذا السؤال من قبل؟!
قلت له هذا ما يغريني أن أسمع رأيك بصراحة وبإسهاب عن هذا الجانب من شخصية عبد الناصر الانسان.
هز رأسه وقال لي: من سوء حظ هذا الزعيم الكبير أنه لم يخلف ولدا يشبهه.
وتابع: من ناحية أولى، كان جمال زعيما وقائدا وسياسيا شجاعا وعبقريا. ومن ناحية ثانية، كان أيضا انسانا ودودا ولماحا ووفيا ومخلصا لأصدقائه وكريما وذكيا جدا، ومرحا يحب النكتة، ويتذوق الفن والغناء، وشخصية ذات روح وثابة. شخصية تجمع كل الخصال والمناقب السامية، وتجعل كل شخص يتعامل معه ويعرفه، أن يحبه، ويحب روحه.
سكت لحظة، وقال لي: للأسف لم يرث أبناؤه منه هذه الصفات الاستثنائية.
عدت لسؤاله: ولا خالد…؟
ابتسم وقال لي: ولا صاحبك خالد. هو يعرف رأيي فيه. فيه الكثير من أبيه، وأقرب أخوته اليه، ولكن لا يمكن تشبيهه به. جمال عبد الناصر شخصية فريدة.
تذكرت هذا الحوار بيني وبين أستاذنا هيكل رحمه الله، في شرفة منزله الجميلة المطلة على النيل صباح أحد أيام يناير 1990، وكان ثالثنا (الصديق) حمدين صباحي، بمناسبة ردود الافعال الغاضبة على عبد الحكيم، بسبب وضع توقيعه على الرسالة الموجهة للرئيس الروسي بوتين استنكارا لما اعتبره الموقعون موقفا روسيا معاديا لبشار الأسد طوطم (محور المقاومة)!
الحملة الشعبية الغاضبة على عبد الحكيم تنطوي على مغزى ايجابي، أنا أراها دفاعا عن ذكرى جمال عبد الناصر المضيئة إذ عدّها الوجدان الشعبي القومي إساءة لرمز نضالهم القومي المعاصر في أعلى نقطة بلغها.
شعور العرب بالوفاء دفعهم للاعتقاد أن ما فعله حكيم مسيء لأبيه. ولكنه في الواقع لا يسيء لغير قائله. لأن الزعيم الخالد انتقل الى جوار ربه، قبل نصف قرن، وتجربته السياسية انتهت برحيله، ولا أحد يرثه، ويرث الحق بتمثيله، أو النطق باسمه. ولا ابناؤه، او احدا من أسرته.
وقد روى لي خالد ذات مرة أن اسرتهم عقدت اجتماعا بعد وفاة الزعيم بأسابيع معدودة، لمناقشة وضعهم كاسرة بعد أن فقدوا أباهم، وصار كثير من الزعماء العرب والسياسيين والقادة يتقربون إليهم، ويعرضون عليهم الدعم والمساعدة، ويدعونهم لزيارتهم في عواصمهم، ويفتحون لهم سبل الظهور، كما صار الصحافيون والاعلاميون العرب يتصلون بهم طلبا لإجراء المقابلات والأحاديث.
وأكد خالد أنهم اتفقوا وبحضور حاتم صادق زوج هدى، وأشرف مروان زوج منى، وبعض الأقرباء الآخرين أن جمال عبد الناصر ملك أمته ومصر بالذات، لا للأسرة، وبالتالي لا يحق لأحد منهم استثمار او استغلال اسمه في أي مناسبة خاصة، ولا ينبغي الاساءة لصورته وذكراه. وإذا كان لا بد من تمثيل الأسرة في مناسبة رسمية، فهذا دور خالد حصرا ولا أحد سواه.
وقال لي خالد: التزم الجميع بالاتفاق الصارم. وانصرف كل واحد منهم الى حياته الخاصة كأي مواطن مصري. كان خالد طالبا في كلية الهندسة في جامعة القاهرة، وكان عبد الحميد ضابطا صغيرا في سلاح البحرية، وكان عبد الحكيم فتى صغيرا، وكانت البنت البكر هدى تعمل في مركز دراسات الاهرام وزوجها حاتم موظفا في أحد المصارف. بينما أصبحت منى سيدة بيت مع زوجها أشرف مروان الذي قربه الرئيس السادات اليه، وضمه الى فريقه الرئاسي.
بعد أن أنهى خالد دراسته الجامعية سافر الى لندن لمتابعة دراسته العليا في لندن وعاد للقاهرة عام 1979، بعد أن حصل على الدكتوراه في الهندسة المدنية، وتخصص في تنظيم المدن والمشاريع الكبرى. وكانت اتفاقية كامب ديفيد مع اسرائيل تلقي بظلالها القاتمة على مصر والمصريين وتحطم علاقاتهم مع العرب. عمل خالد مدرسا في جامعة القاهرة، واخذ يشارك في مؤتمرات وفعاليات سياسية للمعارضة مثله مثل أي معارض مصري، وأي مواطن رافض للواقع القائم في بلده، بدون اتكاء على اسم والده وميراثه، وبدون تسلق لذكراه الخالدة.
في هذه الفترة انصرفت اسرة جمال عبد الناصر الى حياتها وشؤونها العادية، الأم في بيتها الذي ضمها مع زوجها الراحل تعيش مع الذكريات، ومضى الأبناء الذين أصبحوا رجالا، كل في طريقه الذي اختاره لنفسه على النسق ذاته. عبد الحميد عسكري، سيستقيل بعد قليل، أما أصغرهم عبد الحكيم فأنهى دراسته، واختار العمل في المقاولات داخل وخارج مصر، ومنى رافقت زوجها أشرف الى لندن حيث استقر، وأصبح رجل أعمال كبيرا وثريا.
وبعد سنوات تبين أن خالد هو الوحيد بين أشقائه سلك طريق أبيه، وأسس منظمة سرية مع صديقه محمود نور الدين لمقاومة الوجود الاسرائيلي في مصر، فقامت المنظمة (ثورة مصر) بتنفيذ عمليات جريئة ادت لقتل وجرح عدد من الديبلوماسيين الاسرائيليين والاميركيين، قبل أن تكشف ويلاحق أعضاءها بما فيها خالد. وبعد فترة وجيزة اصيب خالد بأمراض عديدة، واعتلت صحته، ورحل رحمه الله في 15 سبتمبر 2011 بعد معاناة استمرت عشرة أعوام مع المرض.
أما هدى فتفرغت للبحث السياسي والفكري ـ وتخصصت بتجربة أبيها.
وأما عبد الحميد فانصرف عن الحياة العامة، وبقي عبد الحكيم مقاولا بين مصر والامارات العربية.
عندما كنت أسأل خالد عن علاقته بأشقائه، كان يقول لي بصراحة أن علاقاته بهم عادية وودية، ولكن زوجته السيدة داليا قالت لي إن علاقته بحميد وحكيم، أقل من عادية، ومتوترة أحيانا، ولم أحاول الغوص فيما وراء ذلك احتراما لخصوصية العلاقات الاسرية التي لا تعني الآخرين. وكانت علاقته ودية مع هدى، وودية جدا مع منى.
ثورات الربيع العربي أعادت الحيوية في حياة ونشاط الاسرة. في رمضان 2011 على ما أذكر اتصلت بخالد هاتفيا أطمئن عليه بعد دخوله المشفى وتدهور حالته الصحية. هنأته برمضان وتمنيت له الصحة والسلامة، وسألته عن مصر بعد الثورة، كان مبتهجا جدا رغم ضعفه ووهنه ومرضه، ولم ينس أن يرد لي التحية فهنأني باندلاع الثورة في سورية، وسألني عن آخر تطوراتها، وما إذا كان الأسد سيستجيب للمبادرات السلمية، فقلت له: ثورتنا غير ثورتكم، والأسد سيكرر سيناريو ابيه في حلب وحماة، فأبدى حزنه واسفه، وأعرب أن تستطيع مصر التدخل أو عمل شيء لدعم الشعب السوري، وتمنى لنا النصر.
بعد أيام أو أسابيع من هذه المكالمة تلقيت خبر وفاة خالد، وحزنت لغيابه حزنا شديدا، ولكني عزيت نفسي بأنه تذوق طعم الحرية والنصر قبل أن يرحل.
في نفس الفترة أصيب عبد الحميد باكتئاب شديد فاعتزل الحياة العامة، واعتزلت منى ايضا بعد وفاة زوجها وشقيقها الأكبر الذي كانت تحبه أكثر من الآخرين. ولم يبق من الأسرة سوى ابنة جمال عبد الناصر البكر هدى، الباحثة، المفكرة، الجادة، التي تحمل وعيا سياسيا وعلميا، تخصصيا بتجربة والدها الخالد. وبقي معها حكيم، وهو أصغر الاسرة.
مع غياب الكبار انفتح المجال أمام الصغير ليتقدم الى المسرح، رغم أنه الأقل وعيا سياسيا وخبرة بين أشقائه وشقيقاته. وكان قريبا من حمدين صباحي الطامح للسلطة وسانده في حملته الانتخابية عام 2012 .
مع بداية ثورة يناير 2011 أخذ (حكيم) يتردد على ميدان التحرير ويشارك الشباب آمال الثورة والتغيير والتحول للديمقراطية. وعندما التهمت الثورة المضادة ثورة يناير وانتهى حلم التغيير، انكفأ (حكيم) وتجنب الاقدام على كل ما يستفز النظام الجديد، ولم يبق له مجال للتعبير عن توقه السياسي الحذر سوى المناسبات العربية، فبرز اسمه عدة مرات في بيانات أو فعاليات تدعم نظام بشار الأسد بحجة الدفاع عن الدولة السورية في مواجهة مؤامرة رجعية وارهابية تستهدف تمزيقها، وتحطيم صمودها، وهو طرح يتبناه حمدين للأسف، واقتفى (حكيم) خطاه.
مع أول تصريح صدر عن عبد الحكيم يعبر عن انحيازه لبشار الأسد، أثار استياء وغضب السوريين وبعض العرب ، اتصل الصديق والزميل حسن صبرا بشقيقته هدى فكتب لها : يا دكتورة هدى الحقي اخيك حكيم ، فهو يدافع علنا عن بشار الاسد سفاح سورية وطاغية العصر، اطلبي منه أن يتراجع عن ذل، حرصا على اسم الوالد الخالد ، فردت عليه بالهاتف قائلة له القول الفصل باقتضاب :
يا استاذ حسن، جمال عبد الناصر رحل منذ اربعين سنة، وتجربته انتهت في 28 سبتمبر 1970، ولا يتحمل مسؤولية ما يقوله حكيم أو غير حكيم.
وتابعت موضحة: أخي لا يفهم شيئا عن الاوضاع في سورية، وهو للأسف يتبع حمدين صباحي كظله، ويتأثر بما يسمع منه. وحمدين كما تعلم لاهث خلف السلطة، ويسعى لها بأي ثمن وبكل وسيلة.
وختمت حديثها: إذا أردتم أن تعرفوا موقف أسرة جمال عبد الناصر وأبنائه من ثورة الشعب السوري، فأنا أقول لكم، وارجو أن تنشروا ما سأقول: موقفنا داعم للشعب السوري بلا تردد ولا حدود، ضد بشار الأسد وأبيه، وضد نظامهم تاريخيا، لأننا نعلم ما ارتكبه هذا النظام منذ عام 1967 بحق سورية وبحق مصر وبحق العرب جميعا.
وقد نشر الزميل حسن صبرا هذا الحديث منذ ذلك عام 2012 في مجلة الشراع تأكيدا للحقيقة، ثم تكررت تصريحات هدى جمال عبد الناصر تأييدا لثورة الشعب السوري وتنديدا بنظام الطغيان الأسدي في مناسبات متلاحقة.
فبأي حديث بعد هذا الحديث يؤمنون؟!