مُونديال قطر والعُروبة ومَسألة الهُوِيَّة والهُوِيَّات مُجدَّداً

مازن أكثم سليمان

* أترحَّمُ في كُلّ لحظة على (ابن خلدون) في نقطةٍ مُحدَّدة ودقيقة جدَّاً وردتْ في مُقدِّمتِهِ، وفحواها بلُغة علم النَّفس الحديث وعلوم الاقتصاد السِّياسيّ المُعاصِر أنَّ الأُمم الضَّعيفة (ولا أُريدُ أنْ أقولَ:  الأُمم المهزومة، لأنَّ الهزيمة تدلُّ على نهايةٍ مُغلَقةٍ وعلى حتميَّةٍ تاريخيَّة، ولا نهاية أو حتميَّة ما دامَ الأفراد والشُّعوب في قلب حركيَّة الحياة والإرادة).. هذهِ الأُمم الضَّعيفة لا تكفُّ عن تقليد الأُمم المُتفوِّقة حضاريَّاً..

* غيرَ أنَّ الموضوع عندنا نحنُ العرب أشدُّ وبالاً من ذلكَ، ولا يقفُ عندَ إشكاليَّة التَّقليد؛ إنَّما يتعدَّى الأمرُ إلى مَسألة الشُّعور المُزمِن بالدُّونيَّة واحتقار الذّات وجَلْدِها وتبخيسِها، وهوَ الأمرُ الذي ينطوي على إغلاق مُرعب وقطعيّ ونهائيّ للتَّاريخ وسياقاتِهِ وإمكانات التَّحوُّل والحركة والتَّغيير والتَّطوُّر الطَّبيعيَّة عندَ جميع البشر أفراداًَ وجماعات..

* أصحابُ هذا الخطاب الدُّونيّ (وما أكثرهُم) يتعامَلونَ مع (العرب) كمجموعة بشريَّة صلبة ومُتماسِكة ومُتجانِسة ومُغلَقة ومُتعالية ومُنتهية، وهذا وعيٌ ساذج بمَفهوم الهُوِيَّة والتَّاريخ، وأعتقدُ من جهتي أنَّ تجارب القرن العشرين الأيديولوجيَّة الجوهرانيَّة (القومجيَّة واليسارويَّة والإسلامويَّة) قد رسَّختْ هذا الفَهم القاصِر والمُشوَّه للذّات والانتماء والهُوِيَّة والتَّاريخ، فضْلاً عن تراكُمات الاشتغال الاستشراقيّ وتأثيراتِهِ العميقة منذُ ثلاثة قرون حتَّى الآن، وتعميم مَقولاتٍ نمَطيَّة وأحكامٍ مُتعالية يتمُّ تداوُلُها بوصفِها مُسلَّمات مُنزَلة حولَ العرب والهُوِيَّة والذّات والآخَر..

* حتماً: ليسَتِ القضيَّةُ عندي في أنْ نُسمَّى (عرباً)، فلنكُنْ أو فلنُسمَّى بأيَّة تسمية كانتْ، ذلكَ أنَّ الموضوع في جوهرِهِ الأصيل هوَ موضوع استعادة (الرّافعة الحضاريَّة) للمنطقة، والتي تُرجِعُنا إلى امتلاك القرار الكيانيّ الفاعل والوُجود النِّدِّيّ  الحيويّ والحيّ في العالَم، بعيداً عن الأوهام الأيديولوجيَّة الضَّيِّقة، والمُتخيَّل المُؤسطَر والنِّهائيّ المُنقطِع عن حركيَّة التّاريخ والتَّحوُّلات والانفتاح على الآخَر والعصر والمُستقبَل..

* في هذا المَنحى: من أطرف ما نراهُ عندنا نحنُ العرب، هوَ تكرار نسبة كبيرة من المُتكلِّمين العرب لعبارة: (يا أخي العرب كذا وكذا وكذا…… شتماً وانتقاصاً ونقداً)؛ كأنَّ المُتكلِّم من أبناء المرِّيخ، أو كأنَّهُ مُنتمٍ إلى هُوِيَّة ثقافيَّة أُخرى، ولعلَّ أيَّ تحليلٍ أو تفكيكٍ هادئ وعلميّ لـِ (أفكار) أصحاب مثل هذا الخطاب سيُظهِرُ ببساطة مَدى انتمائِهِ (بِنيويَّاً) إلى العقل العربيّ الجمعيّ الذي ينتقدونَهُ بوصفِهِم يتحرَّكونَ خارجَهُِ..

* هذا الأمر يتَّضِحُ مثلاً في أصحاب النَّزعات الانعزاليَّة والرُّؤى الشُّعوبيَّة عربيَّاً، فتظهَرُ في خطاباتِهِم جميعُ أمراضِ العُروبة نفسِها التي ينتقدونَها، ويكشفُ التَّحليل المقارن حجمَ وفائِهِم المُطابِق لمَا يُحاوِلونَ أو يتوهَّمونَ الانفكاكَ منهُ ثقافيَّاً، فمَا يبدو أنَّهُ (هامشُهُم المُغايِرُ) هوَ متنٌ جوهرانيّ عُروبيّ مَقلوب بامتياز..

* ومنَ المُفارَقات اللّافتة أنَّ العربيّ (أيَّاً كانَ دينه أو عرقه) يُمضي في الغرب عُقوداً طويلة، ولا يكفُّ الغربيّ عن وصفِهِ بـِ (العربيّ): مرَّةً قالَها (مارسيل خليفة) في أحد الحوارات مُخاطِباً أبناء جلدتِهِ من اللُّبنانيِّين المسيحيِّين (الموارنة) في علاقتِهِم مع “أمِّهِم الحنون فرنسا”: “لو بتعيشوا ألف سنة بباريس رح يضلُّوا يقلُّولكُن إنتو عرب”..

* ليسَ “كُلّ إفرنجيّ برنجيّ” إذن، وفي المُقابِل ليسَ كُلّ “عربيّ مُقدَّس”، فالإنسان والجماعات أبناء ضعفِهِم وهشاشتِهِم وإرادتهِم وتجاربِهِم النِّسبيَّة المُتغيِّرة، والمَسألة ليسَتْ في تخليق مَركزيَّات مُتضادَّة ومُذعِنة لخطاب صراع الحضارات..

* لي مادَّة قيد التَّحضير عن مُونديال قطر، ومُناسَبة هذا المَنشور هيَ القراءات التَّفاصُليَّة المُوزَّعة بينَ شيطنة (قطر ومُونديالِها) وتقديسِ (قطر ومُونديالِها)، وفي الحالتيْن نحنُ أمام عقل جمعيّ نرجسيّ دونيّ، إمَّا عبرَ التَّعويض الحضاريّ بالتَّقديس الجوهرانيّ المُتعصِّب، أو عبرَ التَّماهي بالآخَر (أنْ تكونَ ملكيَّاً أكثَر من الملِك) بشيطنة قطر ومونديالِها شيطنةً جوهرانيَّة إقصائيَّة مُتعصِّبة، فالمونديال في اعتقادي حقَّقَ إنجازات كبيرة للمنطقة العربيَّة يُمكِنُ أنْ يُبنَى عليها الكثير، وهذا لا يعني أنْ نُغلِقَ بابَ النَّقد المُتَّزِن البنَّاء والرَّصين، لكنَّ الكثير من النّاس لا يُريدونَ أنْ يروا أنَّ ثمَّةَ إنجازاً ما اختلفنا على حجمِهِ أو اتَّفقنا، لأنَّ مُواجَهة الحقيقة ومُسلَّمات الذّات من أصعب امتحانات البشر في الحياة، لهذا نجدُ البعض يُريدونَ أنْ يَعصُبُوا أعينَهُم مهما قُدِّمَتْ لهُم البراهين المنطقيَّة والحياديَّة على مَبدأ: “عنزة ولَوْ طارَتْ” بعيداً عن فكرة الامتلاء بالذّات الإنسانيَّة الواثقة من حُضورِها وبالموضوعيَّة الرَّحبة المُتوازِنة..

تحياتي للجميع.

المصدر: صفحة مازن أكثم سليمان على الفيس بوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى