حصاد 22 سورياً: أعيدوا لنا الحرب فالجوع أقسى منها!

طارق علي

لطالما اعتقد السوريّ أنّ كل عام مرّ عليه في الحرب كان الأسوأ، ليأتي العام اللاحق ويتبين أنّه كان أسوأ من سابقاته، هذا بالضبط ما يحصل في بلد أنهكه الجوع ومشكلات السياسة وتهاوي الاقتصاد وغياب الحلول، والتعنت الحكومي وضيق الفكرة والرؤية، وانعدام المقدرة على اجتراح الحلول.

انعدام يمكن فعلاً وصفه بالكيفي، ذاك أنّ نخباً من المجتمع السوري ما زالت تقدم حلولاً اقتصادية للحال المعيشية، بيدَ أنّ الحكومة ما زالت تصم آذانها عن الاستماع، ليبرز إلى السطح سؤال مفصلي يجوز طرحه في كل وقت، وهو: “من يدير شؤون بلد الحرب؟”.

إذا كانت الدولة بمفهومها العام ترتكز على المواطنة ومن تقوم عليهم من أفراد، فإنّ السلطة إذاً بالضرورة لا تمثلهم، وهذا ما خلق شرخاً واسعاً بين المفهومين، فالسلطة التي تنسلخ عن هموم شعبها ليس عليها أن تتوقع منه الكثير.

ولكن، هل يعني هذا أنّ الشعب بأكثره ضد السلطة؟ هذا سؤال يتطلب جواباً مركباً، فالناس هنا تنقسم إلى شرائح، قسم يحمّل الحكومة مسؤولية كل ما آلت إليه الأمور، وقسم آخر يحمّل الغرب وعقوباته المسؤولية الكاملة، وما بين القسمين قسم آخر يشبه التيار الفلسفي “اللا أدري”: وهو يريد أن يعيش فقط، وهو تيار وإن كان طاغياً ذات يوم، إلا أنّه اليوم بات الأقل، فأمام الجوع على الدولة التي ناصرها أبناؤها سلماً وحرباً أن تتحمل مسؤولياتها.

هل ثمة جملة أقسى من هذه: “أعيدوا لنا صوت الرصاص.. فصوت الجوع أشد فتكاً”، وهي جملة تداولها الناشطون في إطار واسع خلال الأسابيع الماضية، وتحمل ما تحمله معها من معان خطيرة تستوجب دق ناقوس الخطر، فأيّ حال هذه التي تجيء بتمني عودة الحرب بكل ما كان فيها من آلام، حرب في أعقد أيامها كان يتنفس السوريون بها، ففي أسوأ سنيّها لم يكن ثمة هذا الجوع، وكانت الموارد الأساسية متوفرة، من ماء وكهرباء وغاز ووقود.

أين الحلفاء؟

إذا ما سلمنا جدلاً بأنّ إيران تفعل ما تستطيع لتمدّ سوريا بالمقومات العسكرية واللوجستية والمعيشية وما إلى ذلك، بحسب ما هو معلن، وبحسب ما قاطعه “النهار العربي” غير مرة عبر مصادر مطلعة، ولكن أين روسيا؟

روسيا التي سيطرت على مطار حميميم العسكري في اللاذقية، وعلى موانئ سوريا على المتوسط في الساحل السوري، ورغم أنّها تدخلت في لحظة مفصلية ومصيرية “عام 2015″، في الجانب العسكري السوري لتقلب الموازين مجدداً بعد تمدد “داعش” على الأرض وسيطرته على المساحة الأكبر في سوريا، ولكن أين هي اليوم؟

لمَ لا تمدّ سوريا باحتياجاتها؟ وهي ثالث أكبر منتج للنفط في العالم، فعلام تترك حليفتها الشرق الأوسطية غارقة في الظلمة والطوابير والحاجة؟

علاوةً على ذلك، ماذا لو قلنا إنّ روسيا أيضاً لم تكتف بالأمر، بل قاسمت سوريا سيطرتها على آبار النفط والغاز المسترجعة من سيطرة “داعش” في محيط تدمر، فماذا ستشكل بضع آبار لدولة “عظمى” تتدخل في دولة صغيرة ينهشها الجوع وسوء الحال؟

ليس ثمة سوريّ لا يسأل اليوم عن دور الحلفاء، عن دور دولة عالمية مركزية كادت تخضع أوروبا عبر حرب أوكرانيا ـ بحسب آراء محللين ـ وواهم من يعتقد أن دخول روسيا في معركة أوكرانيا هو سبب تردي الحال في سوريا، فالأمر قائم منذ سنوات، وحليف الشام “أذن من طين وأذن من عجين”، فعلى أي جانبيها تميل سوريا؟

الشّهر الأقسى والبلد المشلول وموسم الهجرة

استفاق السوريون على يوميات هي الأقسى في حربهم خلال شهر كانون الأول الجاري، فجأةً وجدوا بلدهم صفراً في المشتقات النفطية والمتطلبات الحياتية الرئيسية، من دون سابق إنذار تعطل شكل الحياة، وتعطلت معه مصالح الحياة وأمورها البسيطة حتى.

ارتأت الحكومة أن تنفذ عطلة إجبارية لأيام الآحاد الأخيرة من الشهر الحالي، ثم قررت أن تكون هناك عطلة كاملة للأسبوع الأخير من العام، وذلك بغية توفير المشتقات النفطية، ولكن هل هذا هو الحل؟ قطعاً لا، هذا في الاقتصاد ليس إلا هرباً إلى الأمام ومقامرةً على الأيام والحلفاء في الوقت نفسه، ورهاناً على “صمود” شعب أنهكته المآسي فركب عباب البحر وغرق بين أمواجه بحثاً عن حياة أفضل، ولعلّ غرق قارب الهجرة مقابل طرطوس في شهر أيلول من العام الجاري كان أبرز صور المعاناة التي ألمّت بالمنطقة، والتي معها كان الضحايا قد وصلوا إلى نقطة “اللا عودة”.

واللا عودة هنا هي موجة الهجرة الثانية الأكبر التي تشهدها سوريا خلال حربها، باعتبار أنّ الأولى كانت في عز الحرب العسكرية، أما الثانية فجاءت هذا العام في ذروة الكارثة الاقتصادية، وما مشاهد المهاجرين بحراً، أو التائهين في غابات بولندا واليونان، أو أولئك الذين علقوا لأشهر على حدود بيلاروسيا، والذين تناول “النهار العربي” قصصهم – غير مرة – سوى أدق تعبير عن حالة التعب والإنهاك وربما “القرف”.

كيف لا يمكن وصف بلد بالمشلول وهو على الصعيد الداخلي لا حركة نقل فيه، وعلى الصعيد الخارجي يهاجر شبابه نحو بلدان بعيدة قاصدين حياة جديدة، لا ذلّ فيها، لا قهر، ولا درب مليء بالأشواك.

سأل “النهار العربي” عبير زيدان، وهي فتاة هاجرت إلى دبي بداية العام الحالي بحثاً عن حياة أفضل، عن حالها اليوم، وحال حياتها، قالت باختصار: “هذا بلد حقوقك فيه أكثر من واجباتك”، وفعلاً هذا جواب مختصر للغاية ولكنه يفسر الكثير، يفسر حال سوريين خارجين من بلد لا حقوق فيه، بيد أنّه مليء بالواجبات.

عبد الرزاق حمود شاب وصل إلى ألمانيا هذا العام بعد رحلة مليئة بالمخاطر والخوف والتعب والإرهاق عبر حدود بولندا، قال بكل بساطة: “هنا كهرباء 24 ساعة”، تخيلوا! هذا بات أقسى أحلام السوري، فحين نعلم أنّ الكهرباء تقطع في بلده أكثر من 20 ساعة وقد تصل إلى 22 أو 23 ساعة يومياً، فيصبح الأمر مبرراً، قليل من الكهرباء يساوي مجمل قضايا الانتماء والوطن.

القهر المشترك

المشترك في حكايات الجميع هو القهر، والقهر حين يسود، فإنّه يتسيد على الذوات والنفوس ويحول الحياة إلى جحيم يصبح الفكاك منه لزاماً لكل من استطاع سبيلاً.

قد نجد بعض المتفائلين، ولكنّهم قلّة، وهم بدورهم ينقسمون إلى فئات، فئة تبحث عن هجرة مستقبلية، وفئة مؤمنة بأن الحلول قادمة لا محال، وفئة ما زالت تؤمن أشد إيمان بالدولة، وفئة مسيطرة مستفيدة أفرزت معها طبقة من الوصوليين المنتفعين من السلطة الذين جنوا ثمارهم بكدّ غيرهم، والذين يسيطرون اليوم على مقدرات البلد المنهك، على ما بقي منها.

وهؤلاء، ربما، نجحت الحكومة في استثمار بعضهم للالتفاف على العقوبات غير مرة، ولكن ماذا حصل؟ كل مرة كان يعود الحصار أقوى وأشدّ، وتزيد ثروة هؤلاء أكثر وأكثر، والطامة الكبرى، أنّ بعضهم كان أمياً شبه معدم مادياً عشية الحرب، أما اليوم، فصاروا أسياداً يتطلب ذكر أسماء بعضهم “الهمس”.

الجباية

عام 2011، أول أعوام الحرب، كان يبلغ سعر ليتر البنزين 55 ليرة سورية، في عام 2012 بلغ 80 ليرة، في عامي 2013 و2014 و2015 سجل 160 ليرة، وفي الأعوام من 2016 إلى 2019 بلغ 225 ليرة، وفي عام 2020 كان 450 ليرة، وفي عام 2021 وصل إلى 2500 ليرة، وفي العام الحالي تم رفعه قبل أيام ليصل إلى 3000 ليرة.

ودائماً ما كان يسبق كل رفع انقطاع شديد للمادة من الأسواق النظامية، ثم يأتي الرفع لتتوافر المادة مباشرة ويكون الحل.

ورغم أنّ وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم نفى نفياً قاطعاً في شهر تشرين الماضي وجود أي نية لدى الحكومة أو الفريق الاقتصادي لرفع أسعار المحروقات، ما كاد ينقضي أقل من شهر حتى ارتفع سعر البنزين والمازوت.

بالتزامن، مرةً قالت الحكومة إنّ المشكلة في العقوبات وبقانون قيصر، ومرةً قالت إنّ المشكلة هي في قلة القطع الأجنبي، ما حدا بالكثيرين للطلب من الحكومة الثبات والاتفاق على رواية واحدة، في ظل تضارب التصريحات بين المسؤولين.

وأخيراً، قررت الحكومة أنّ ثمة تاجراً يستطيع الإتيان بالمحروقات من الدول البعيدة، ولكنّه سيبيعها للسوريين بالسعر العالمي المتبدل كل شهر، وغالباً سيبدأ مبيعه بسعر “4900 ليرة – أقل من دولار بقليل”، وسيتم الاستيراد لمصلحة شركة bs الخاصة.

بيد أنّ الحكومة نسيت أن تخبر شعبها كيف لتاجر محسوب عليها ومعاقب أن يستورد فيما هي عاجزة، بل من أين سيأتي بالقطع الأجنبي الهائل؟ علماً أنّه سيبيع للسوريين بالعملة المحلية، وقد يكون لدى الحكومة أجوبة منطقية ومقنعة، ولكنّها، كما العادة، لا تصارح شعبها، ولا توليه من وقتها ولو القليل لتشرح له ماذا يحدث من حوله. تاركة له الفضول وكل أنواع التكهن بمصيره.

كل ذلك جاء مع انهيار تاريخي وغير مسبوق في قيمة العملة المحلية التي سجل الدولار الأميركي الواحد أخيراً مقابلها نحو 6200 ليرة سورية في السوق السوداء.

ومن نكد الدهر على السوري أنّ كل المشتقات النفطية متوافرة بكثرة وعلى الطرق العامة وفي الأحياء بأسعار السوق السوداء التي تعجز الحكومة عن مواجهتها إلا بالتصريحات والتهديد والوعود، ولكن ماذا تفعل على الأرض؟ ربما لا شيء، هكذا تبدو الحال، سوى أنّها أقلقت الصناعيين أخيراً حين هددتهم بالعقوبات الصارمة إذا ما اشتروا المشتقات من السوق السوداء، وبالتالي هذا يعني تعطل المصالح والمعامل والمنشآت، وبالضرورة، توقف بقية ما كان يعمل ويدبّ الحياة في المجتمع.

الواقع الصّحي

تردى الواقع الصحي بدوره تردياً غير مسبوق خلال عام 2022، ففيما تراجع مستوى خطر فيروس “كورونا”، بدأت الكوليرا بالتفشي، في ظل تراجع واضح للدور الصحي الشامل الذي يستطيع معالجة كل الآفات والمشكلات الصحية.

فبين الداخل السوري والمخيمات الداخلية والخارجية ما زال يعاني السوريون أشدّ الظروف الصحية صعوبة وتعقيداً، إذ تفتك بهم الأمراض، في ظل عجز الأمم المتحدة عن تغطية الملف كاملاً، لا سيما بعيد اتهامات عديدة طالت مسؤوليها بسوء التصرف  بالأموال الممنوحة لها والمخصصة للشعب السوري، من جهة، ومن جهة أخرى، بات ارتفاع أجور معاينات الأطباء يعجز السوريين، ومعه الارتفاع المتتالي لأسعار الأدوية وأجور المستشفيات، فيكفي أن نعلم أنّ أجر عمليات القلب المفتوح وصل إلى حدود 25 مليون ليرة سورية في المشافي الخاصة (نحو 5 آلاف دولار).

عسكرياً

تتالت الغارات الإسرائيلية على مواقع متعددة في الداخل السوري، أبرزها كان على مطاري حلب ودمشق الدوليين، فيما سجلت جبهات إدلب في الغالب هدوءاً نسبياً وفق مسارات تفاهم أستانا وسوتشي والضامنين الدوليين لها، بينما شهدت المناطق التي تقع تحت سيطرة القوات الكردية شمال وشمال شرقي سوريا موجات قصف عنيفة من الجانب التركي الذي ما زال يهدد بعمليات عسكرية برية واسعة، وسط تصريحات تركية متواترة، كان أبرزها من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن نيته لقاء الأسد.

أشدّ العجاف

ختاماً، يمكن القول إنّ هذا أشد الأعوام العجاف في حياة السوريين منذ تأسيس جمهوريتهم الحديثة، واقع لا تبدو ملامح نهايته قريبة، وليس هناك أفق لحلول مقترحة، ولعلّ أكثر ما يقلق السوريين هو مقولة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: “حين تكثر الجباية، تشرف الدولة على النهاية”.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى