قراءة في كتاب: لقد مررت في هذا العصر

أحمد العربي

عن دار المحيط للنشر وضمن سلسلة “أنا الرواية”، صدر كتاب الروائي فواز حداد “لقد مررت من هذا العصر” مدونا فيه قصته مع الكتابة الروائية.

فواز حداد الروائي السوري الذي كتب رواياته عن سوريا بدءاً من الاستقلال حتى الثورة السورية ربيع ٢٠١١م وما تلاها من سنوات وأحداث. تكشف عن الشغف والحب والمصداقية والانتماء الى سوريا كوطن ملهم، والعدالة والحرية كهدف؛ كل ذلك متجذر عميقا في حنايا الدمشقي المتواضع فواز حداد، الساكن في جوف الشام، مثلما دمشق ساكنة في أعماقه، حملها كل حياته، وفي غربته حيث ارتحل. كما كلنا نحن السوريين… يحولها لنبض روائي صادق وحميمي يوزعه رسائل حب وإخلاص وولاء لسورية وشعبها وقضاياه العادلة عبر نحو ثلاثة عقود.

كنت قد قرأت روايات فواز حداد تباعا منذ حصولي على روايته “موزاييك” صدفة على رصيف الكتب المستعملة في الحلبوني بدمشق قبل ما يزيد عن العقدين، ومنذ قراءتي لهذه الرواية داومت على البحث عن رواياته وقراءتها والكتابة عنها خاصة بعد الثورة السورية.

تبدأ سردية فواز حداد: “لقد مررت في هذا العصر” من سؤال لماذا اختار أن يكون روائياً؟ ابن دمشق الذي كان ومنذ صغره شغوفا بالقراءة ومتابعة السينما والمسرح، ما جعله يفكر جديا أن يعمل في مجال السينما. أكمل دراسته الجامعية في الحقوق، حاول السفر إلى مصر لأجل ذلك. ولكن ضرورة الخدمة العسكرية الاجبارية أجّلت سفره، ومن ثم تحول الشغف داخل نفسه تجاه الكتابة الروائية. عمل بداية في اعمال حرة، فرضتها عليه متطلبات الحياة، إلى أن تفرغ للكتابة.

في عزلته حاول أن يشبع موضوعاته الروائية بالمادة المعرفية في تجهيز عدته الروائية، ما شكل نقلة نوعية في الرواية السورية، وإن لم يُعن بالاعتراف به مرتزقة النقد وشبيحة الأدب السوريين اذناب النظام من مثقفيه وأدواته، أو من كهنة النقد الأدبي أصحاب الصوت العالي الأجوف، كلهم اعتمدوا تجاهل انتاج فواز حداد لان التحدث عنه سيعلن حضوره.

بدأ فواز حداد تجاربه الكتابية مبكرا، فسوّد الكثير من الصفحات؛ روايات لم تنته وقصص قصيرة وحتى تجارب مسرحية، كلها بقيت دون نشر. ولم يبدأ في النشر إلا بعد تجاوزه سن الأربعين الذي اعتبره سن نضجه الروائي، بروايته الأولى “موزاييك”.

كان الهمُ الروائي عند فواز حداد مسكونا بهواجس ما يعيشه في بلده، فاتخذ سورية موضوعه، واسترجع الماضي القريب، قبل الاستقلال عشية الحرب العالمية الثانية، متقصيا أحوال المكان والزمان والبنية المجتمعية، فكانت روايته “موزاييك” ثم روايته “تياترو” وبعد ذلك روايته “صورة الروائي”. باعتبارهم المرحلة التي شكلت معالم سورية الأساسية، الخارجة من الانتداب الفرنسي، فالاستقلال وانقلابات الأربعينات والخمسينات وصولا إلى السبعينات وحضور البعث بصفته الحاكم المطلق بصورة الأسد الأب.

وضع فواز حداد مجموعة ضوابط ذاتية في كتاباته: أولوية الزمان والمكان وافساح المجال لشخصيات الرواية، شخصيات غير مقيدة تتحرك بحرية. مع إدراك ان الرواية في أحد جوانبها تحيلنا إلى التاريخ ولا تغفله. وأنها تُكتب وهي تبطن رسالة ليست غير ظاهرة، بل متوارية، والّا لأصبحت خطابا سياسيا ومجتمعيا.

بعد رواياته الثلاث الأولى، ستكون الرواية صوت الواقع، تعبر عنه وتدخل في تلابيبه. فكتب رواية “مرسال الغرام” التي غاص عميقا في الواقع السوري في مرحلة الوحدة المصرية السورية ما قبلها وما بعدها من خلال السياسة والمجتمع والفن. ثم أسس بروايته “مشهد عابر” اختراقا في عش دبابير النظام. فكانت الرواية الاجرأ التي كتبت في ذلك الوقت، ما كشف عن بنية الفساد وتركيبة النظام، هذا لم يقله أحد، كان من المسكوت عنه عند الأدباء والمثقفين. أما روايته الثالثة في تلك المرحلة فكانت “المترجم الخائن” التي تفضح دور المثقف في الواقع وحضوره المهادن المخادع والمتناقض مع الثقافة ودورها الفاعل في الحياة والمجتمع.

بعد ذلك، ولان فواز حداد يعيش الزمن السوري متداخلا مع الزمن العالمي، فكان ابن عصره   بمعنى ما حصل و يحصل في هذا العصر، وعلى علاقة بسورية، حيث توالدت و تناسلت إشكالات الحضور الأمريكي بجنوده  في بلادنا على هامش ضرب أمريكا من القاعدة، والرد بالقضاء على الإرهاب، واحتلال العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل، فتابع بثلاث روايات،  تحيلنا إلى الإرهاب في الداخل السوري، وفي الجوار من ناحية ارتداده البغيض على البشر والاسلام؛ “عزف منفرد على البيانو” و”جنود الله” و”خطوط النار”… قال كلمته في هذه الروايات التي تتحدث عن الحضور الغربي، وازدياد إرهاب الدولة، وما انعكس عليهما في تمدد الإسلام المتشدد السياسي والارهابي ودوره المخرب الذي حصدناه لاحقا.

ستكون الثورة السورية ربيع عام ٢٠١١م، ومن وحيها استمد مادة ابداعات روائية كثيرة، كان أولها روايته “السوريون الأعداء” التي يعيد فيها فتح ملف أحداث الثمانينات في الصراع بين النظام والطليعة المقاتلة ومذابح النظام التي راح ضحيتها عشرات الآلاف في حماة وحلب وجسر الشغور وسجن تدمر وبقية المدن السورية، في متابعة لخيوط الحدث السياسي صانع المأساة الواقعية وهو النظام الاستبدادي الظالم، تسرد الرواية أحداث الثورة السورية، مع التطرق إلى شرعيتها. ثم تناول واقع الحرب والدين والمثقفين وما يدعى بالأقليات في رواياته التالية: “الشاعر وجامع الهوامش” و”تفسير اللاشيء”، و”يوم الحساب”. وفي الأفق روايتان، وبذلك يغلق ملف الحدث السوري في الثورة والحرب التي دامت ما يزيد عن عشر سنوات.

ينتقل فواز حداد بعد الحديث عن مشروعه الروائي للتحدث عن رواسخ حياتية كوجود وانتماء جعلته يكون ما هو عليه الآن، أشبه بقدر مُلزم لا هروب منه، بقدر ما هو راض عنه، معلنا

مشروعه الذي وضحت معالمه من خلاله شهادته عبر رواياته على العصر الذي عاشه.  فكان حاضرا كروائي وشاهد متواضع وزاهد كأي صوفي، فاكتفى بإرضاء ضميره وقيامه بدوره… باستعادة دمشق بصفتها مدينته ومسرح رواياته، ايقونته، معلناً انتمائه النفسي والعاطفي لها. دمشق صورة الوطن والانتماء إلى سورية موحدة.

في كتابه، قدم اضاءات مهمة في عالم الرواية، كيف كتب رواياته، طقوسه في الكتابة، تجاربه المتنوعة، وبما يمكن الاستفادة منها، فتحت عنوان التواضع أمام شخصيات الرواية اراد ان يقول ان على الروائي أن يترك حيزا تستطيع من خلاله أن تقدم الرواية عبر اشخاصها صورة لتطوراتهم الذاتية، ما يعكس مصداقية وتوازن وتطور الرواية وأحداثها.

كما تحدث عن الواقعية في الكتابة الروائية، بمعنى أن الرواية الناجحة والمستمرة الحضور هي التي تتوغل في الواقع وتعيد قول كلمتها حوله، ما ينيره حتى يكون أقرب لحياة هي الافضل في تجسيد الحرية والعدالة والمساواة. وتحدث عن التشويق والحبكة في الرواية وانتصارها للقضايا الإنسانية الكبرى. وأنها كانت ضحية الرقابة والحجب والمنع، وانه أصاب الرواية ما أصاب الناس في البلاد الاستبدادية من قمع وأذى.

ينهي فواز حداد كتابه بنصائح ثرية للجيل الجديد من الكتّاب مع انه حاول تفاديها… يجب أن تكون الرواية بالنسبة للكاتب شغفا وهوى. يجب عليه ان يقرأ كثيرا، وأن يكون متمكنا من لغته العربية فهي اداته لنقل ما يريد التعبير عنه. ألا يستعجل النشر، وأن يشبع العمل فحصا وتدقيقا، وقد يحتاج إلى تقصي المعلومات…الخ.

هنا ينتهي الكتاب الشهادة.

في التعقيب عليه اقول:

كنت متأكدا قبل قراءة هذا الكتاب أن وراء هذا النضج الروائي والفرادة والدأب والانتاج المدروس عند فواز حداد شخصية روائية فريدة، لا معجزات هنا ولا إلهام، بل اصرار على صناعة النموذج والعطاء من قبل مبدع عبر نصف قرن. ولو أنه نشر رواياته في العقود الأخيرة لكنه كان يبني نفسه منذ نعومة أظفاره…

قرأ كثيرا جدا… لنقل قرأ ولم يتوقف عن القراءة، ارتد لديه بنهر عطاء ظهر عبر رواياته. اكتشف شغفه مبكرا وموهبته ايضا، اهتم بها وأعطاها حقها، وكتب ليصنع من رواياته شاهدا أدبيا متميزا قلّ أمثاله عن سوريا في القرن الماضي.

متواضعا منعزلا يحمل قلمه. لا يأبه لحاقد او حاسد او متنمر. تفرغ لكتابة رواياته التي لم تطعمه الخبز، هو اطعمها من عرقه لكي تنتشر، كانت كتابته الروائية رسالة أداها على خير وجه. كان محاربا للظلم والاستبداد المعلن من النظام على الشعب. وضع نفسه تحت مجهر النظام الذي لم يتوان يوما عن هدر دم اعدائه من احرار الشعب السوري. ومن هنا كانت كتابات فواز حداد الروائية منذ البداية وخاصة بعد “السوريون الأعداء” إعلان حرب على النظام. تماما كخروج في مظاهرة او ممارسة اي عمل سياسي مباشر ينتصر لحقوق الشعب السوري بالحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الأفضل…

وإذا كانت الرواية في أحد جوانبها رسالة، فتلك كانت رسالة الروائي السوري فواز حداد، أدّاها على أحسن وجه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى