خاص : موقع ملتقى العروبيين وموقع : مصير
ثمة اختلاف في مقاربة إحياء الفلسطينيين لنكبتهم، منذ واقعتها التأسيسية عام 1948، وعلى امتداد العقود التي تلت، وصولاً إلى إحياء ذكراها الآن، وقد طوت اثنتي وسبعين سنةً، كانت حاشدة بالأحداث والتحولات الكبرى. ففي بدايات انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، ومحطات صعودها الكفاحي، كان يقترن إحياء ذكرى النكبة في الوعي الجمعي الفلسطيني، بوجود مشروع وطني، يندرج في سياق الانتقال من حالة الصدمة واليأس، التي خلّفتها النكبة في سنواتها الأولى، إلى حالة النهوض الشعبي وما رافقها من آمال كبرى، أعادت ثقة الفلسطينيين بأنفسهم، كأصحاب قضية عادلة، يكافحون من أجلها، بوصفهم طلّاب حق، تأبى أرواحهم المشدودة إلى أرضهم السليبة، الرضوخ إلى واقع اللجوء، والاستكانة لبؤسه الإنساني.
هذا الانتقال العارم الذي طبع حقبة نهاية الخمسينات، وعقدي الستينات، والسبعينات، أدى إلى سطوع صورة الفدائي في الوجدانين الفلسطيني والعربي، مقابل ضمور صورة اللاجئ المغلوب على أمره. طغى في تلك الأزمنة خطاب التحرير، ولم يكن خطاب العودة مستقلاً عنه، كما أمسى عليه الأخير، بعد بروز مخاطر حقبة التسوية على قضية اللاجئين.
في حقبة الفدائي التي تلاشى فيها التمييز بين حامل البندقية، والسياسي والمثقف الثوري، شكّلَ مناخ إحياء ذكرى النكبة، مناسبةً للكل الفلسطيني، سواء الصامدين على أرضهم، واللاجئين المهجرين في أصقاع الأرض، لإسماع العالم صوتهم الموحد على رفض التسليم بالهزيمة، وإصرارهم على مواجهة مشاريع الاقتلاع والإمحاء التي تعرضوا لها. لم يغب عنهم – وقتذاك – أن التمسك بوحدة الأرض والشعب، وإحياء تلك العلاقة الوشيجة والعضوية، التي جاءت النكبة لتقطيع أواصرها، هو الرد الفلسطيني الواجب، على تداعيات النكبة ومحصلاتها الكارثية. صاغت تلك المعادلة التي اجترحها الفلسطينيون، منظورهم الجمعي للنكبة، ومعنى ودلالات إحيائها في الذاكرة والضمير والإرادة.
رغم الخسائر الكبيرة لخروج المقاومة الفلسطينية من الأردن عام (1970)، وطيلة الأزمات التي واجهت محطات الثورة في لبنان، وأكثرها خسراناً الاجتياح الصهيوني وخروج المقاومة من بيروت عام (1982). بقيَ إحياء ذكرى النكبة في مختلف التجمعات الفلسطينية، يحمل رسائل التمسك برواية الاقتلاع، والحفاظ على حق ضحايا النكبة، في مقاومة محاولات ومشاريع تدجينهم واستسلامهم. إذ اتضح خلال تجربتي الثورة في الأردن ولبنان، تورط أنظمة عربية في خدمة الأجندة الصهيونية، التي استهدفت تصفية معاقل الثورة، وتحويل صورة ورمزية الفدائي، من الإنسان المتمرد والمُخلص لقضيته وشعبه، إلى صورة اللاجئ المهزوم والمخذول، كما كان عليه الحال قبل بزوغ فجر الثورة. مع ذلك استعادت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي اندلعت نهاية العام (1987)، مكانة الفدائي في الضمير الوطني، والتي جسّدها عنفوان وإبداع أبطال الحجارة، بما لا يقل عن عنفوان الفدائي، في زمن صعود الكفاح المسلح.
يكشف التذكير بتلك الأزمنة، قبل التحولات العميقة التي طرأت على الواقع الفلسطيني، لاسيما بعد اتفاق أوسلو، عن قوة حضور اللاجئ الفلسطيني في إحياء ذكرى النكبة، كحامل وطني أساسي، لديه من ذخيرة العطاء والتضحيات، ما جعله مهجوساً بالإجابة الفاعلة على سؤال النكبة. فضلاَ عن توظيفه طقوس الإحياء السنوية، بما يتجاوز حدود التآسي على الفردوس المفقود، إلى حيث معترك الدفاع عن الحقوق، ومواصلة الكفاح لنيلها مهما كانت الأثمان. لم يخفِ هذا السياق الكفاحي الذي شهد خطه البياني انحدارا تدريجياً، في زمن تآكل المشروع الوطني الفلسطيني، من اتساع الفجوة بين جموع اللاجئين في المنافي، وانزياح الطبقة السياسية الفلسطينية عن حقوقهم ومصالحهم.
رغم سيولة الحديث عن ضرورة ردم الفجوة، ومراجعة أسباب الانقسام والضعف، التي أصابت الحالة الفلسطينية على كافة المستويات، بقيت آذان القيادات الفلسطينية صمّاء، وبدأ اللاجئون يحصدون أشواك التناحر الوطني والسياسي، الذي تكرس في حقبة الانتقال من منطق الثورة إلى وهم الدولة، بعد أن فرض اتفاق أوسلو عام (1993)، ثقافة وسلوك السلطة بديلاً عن ثقافة وسلوك التحرر الوطني. أفضى هذا التحول الفارق، في علاقة اللاجئين بمرجعيتهم الوطنية، وتراجع دورهم الذي شكّل عصب الثورة الفلسطينية ومشروعها الوطني، إلى نتائج كارثية من أشدّها خطورةً؛ تسهيل أهداف المشروع الصهيوني، في تجزئة وحدة الشعب، وتفتيت وحدة الأرض بغطاء رسمي فلسطيني. والتخلي عن اللاجئين وترك ظهرهم مكشوفاً لسياسات القمع والتنكيل، التي اتبعتها الأنظمة العربية وإيران بحقهم، كما حصل لفلسطينيي العراق من جرائم إبادة وتهجير، على يد الميليشيات الطائفية التابعة لإيران بعد احتلال العراق عام (2003)، والنكبة الثانية التي حلت على رؤوس فلسطينيي سورية منذ اندلاع الثورة السورية عام (2011). بعد قيام النظام الأسدي والميليشيات الفلسطينية الموالية له، وبدعم إيراني وروسي، بارتكاب جرائم حصار وتدمير مخيماتهم، واعتقال وقتل الألوف منهم، وإجبارهم على التهجير وفق سياسة ممنهجة. بالمقابل لم يقتصر تخلي القيادات الفلسطينية وتواطؤها، حيال نكبات اللاجئين ومعاناتهم، على المنخرطين باتفاق أوسلو، بعد أن لبسوا ثوب السلطة، وأصبحوا أدوات لإطفاء الروح الكفاحية، وتقييد إرادة الشعب الفلسطيني، واستبدال صورة الفدائي والمقاوم، بهيئة مجتمع السلطة المسكون بالراتب وعطايا المانحين. بالمقابل أيضاً شاركت الفصائل الفلسطينية التي رفضت أوسلو لفظياً، فيما أدت متاجرتها في شعارات المقاومة، ودخولها لعبة التبعية لهذا المحور أو ذاك، وفق ما يلبي مصالحها وحساباتها الخاصة، إلى تصليب ممارسات السلطة والاستتباع والفساد.
أودت مجمل هذه المحصلات المأساوية، التي تراكمت في العقود الثلاثة الأخيرة من مسيرة العمل الفلسطيني، إلى انكفاء مشروع إحياء النكبة في تجلياته الثورية والعملية، وقد كان معقد آمال اللاجئين، وعنوان وجودهم وكفاحهم التحرري. وعلى وقع النكبات المتتالية التي عصفت باللاجئين، أمست ذكرى النكبة في عيون أجيالهم الهائمة في مخيمات التهجير والمنافي، مناسبةً لنبش مخزون القهر الذي فاض بأوجاع الهزائم والخذلان.
اليوم تمر الذكرى (72) للنكبة، فيما يُخيّم على حياة المنكوبين، هواجس ضياع قضيتهم، ومخاوف تغييب حقوقهم، وهم عالقون بين جحيم التأديب والإنكار والتذويب. يتكؤون على الذاكرة التي ورثوها من أجدادهم وآبائهم، كي لا يفقدوا المتراس الأخير، للدفاع عن روايتهم وهوية انتمائهم. اليوم يدركون أكثر أن إحياء النكبة، في غياب الجواب الفلسطيني على سؤالها الوطني، سيبعدهم أكثر عن مطالبهم المتجذرة بالعودة إلى ديارهم، طالما أن استكمال مخططات الاغتصاب الصهيوني، هو الجواب السافر والمُهيمن، في ظل بؤس الواقعين الفلسطيني والعربي.