في القضية السورية والأحداث الداخلية والخارجية المواكبة لها والمؤثرة فيها، دار الحديث مؤخراً حول “الدولة” و”مؤسسات الدولة”. ولا نحتاج في هذا السياق لتعريف ابن خلدون للدولة كـ “امتداد زماني ومكاني يشير إلى مدى نفوذها واتساع رقعتها واستمرارها زمنياً ببداية وذروة ونهاية”، ولا إلى تطور مفهومها الحديث إلى “دولة المؤسسات الديمقراطية المبنية على عقود سياسية واقتصادية واجتماعية بين الحاكم والمحكوم على بقعة جغرافية تحكمها الضوابط القانونية في الحق والواجب”. الحديث ها هنا عن صنف نادر من “الدولة”، ألا وهو “دولة الأسد” و”مؤسسات دولة الأسد” التي طوّبت سوريا باسمها، والتي عاد وذكّرنا بها شبيحته عندما تظاهر سوريون من السويداء أمام مبنى “محافظته“.
ربما يكون آخر اهتمامات السوري، بسبب كثرة مواجعه، تعريف الدولة وغيرها من التعريفات. وفي هذا السياق، أنقل للقارئ ردة فعل بعض شبيحة نظام الأسد تجاه خروجي على منظومته الاستبدادية التي يسميها “دولة”، حيث قالوا: ” لك هنت (إنت)، كيف صرت دكتور؟! مو بفضل الدولي؟! مو الدولي اللي علمتك، وطعمتك، ووظفتك، وسويتك بني آدم!!!؟؟ لك كيف بتبصق بالصحن اللي بتاكل منو؟! معقول تكون عميل ضد الدولي؟؟!!!“؛ وكأن الذي يتحدثون عنه قد صَرَف عليه آل الأسد من جيبهم، ولم يدرس ويشقى ليحصل على دكتوراه بدرجة شرف من جامعة “جورجتاون” في واشنطن. خطابهم هذا تكرر تجاه صرخة الحرية والكرامة في وجه تلك المنظومة الإجرامية في انتفاضة السويداء. وهذا هو موقف هذه “الدولة الأسدية” تجاه كل مَن خرَج عليها.
في دولة العصابة، المدرسة لتمجيد “الطالب الأول” و”المعلم الأول” و”الخريج الأول”، الأسد. إنها ليست للتربية والتهذيب والمناقبيات والتعليم والتفكير الحر. إنها المكان الأول لتكريس العبودية والقمع. والويل والثبور لِمَن يشير أو يلمّح لذلك؛ فسرعان ما ينقض عليه(ا) المخفر الأسدي الذي يدير هذه المؤسسة الأسدية.
منها يتخرج المحامي والقاضي؛ ليستمر الخراب في حقوق الناس وعجزهم عن نيل حقوقهم إلا بالرشوة والفساد. ومنها يتخرج الطبيب ليذهب إلى مشافٍ تديرها المخافر، وليتحكم الجاهل بالعالم، والممرضة التابعة للمخفر بأشرف طبيب أو عامل. ومنها يتخرج مربي الأجيال، الذي يريدونه أن يربي بالطريقة العبودية التي يشاؤون. والويل والثبور لمن يلفت الانتباه للفساد والخراب الحاصل، لأنه(ا) سرعان ما يُوصف بالمعتدي على “مؤسسات الدولة” أو المخرب أو حتى العميل لجهة خارجية. كذلك حال المهندس والفنان والتاجر والصناعي والحرفي وكل طاقة عاملة بـ “دولة الأسد”.
حتى بقاء أو عيش السوري في “دولة الأسد ومؤسساتها” كان منّة. حتى تَوفُّر الماء أو الكهرباء أو الغذاء كان مكرمة من “رئيس المخفر”. ومَن لا يذكر ويسبّح بذلك صبحة وعشية، يُعتَبر جاحداً أو غير سوي، لأنه يغفل أن “دولة الأسد” هي التي تطعمه وتعلمه وتوظفه وتجعله “بني آدم”. وإن حَدث ورفع صوته، حتى تلميحا، بأن ذلك حقّه الطبيعي، لا أن يخرّب شيئاً في “مؤسسات الدولة”، سرعان ما يجد أن جهنم الأسدية فتحت أبوابها عليه(ا).
الأهم بين “مؤسسات الدولة الأسدية” هي العسكرية والأمنية. تلك كانت المخفر على كل ما سبق. عقود وهي تلتهم ثلاثة أرباع موارد سوريا، تحت ذريعة حماية الحدود و”الإنسان”. وثبت أنها مكلفة بمهمةٍ معاكسةٍ للمُعلن. لقد كانت الأسرع باعتقال السوري وقتله وتدمير بيته وتشريده، والتعامل مع المحتل القديم والمستعمر الجديد الإيراني-الروسي. وتبقى المؤسسة الحالية في دولة العصابة مؤسسة الكبتاغون، ومؤسسة بيع مقدرات سوريا، ومؤسسة المعتقلات، ومؤسسة السطو على خيرات سوريا. ومن هنا كتب العبقري محمد الماغوط “سأخون وطني”؛ ولم تكن الخيانة إلا لدولة العصابة، والتي أتينا على ذكر مجرد بضع نماذج من بنيتها وطبيعة “مؤسساتها”،
في حالة شللها الآن، باتت دولة العصابة هذه تدرك أن مَن يحميها ليس بأحسن منها حالاً؛ فروسيا وعقودها ووجودها السياسي تغرق بحربها الأوكرانية وتناقضاتها مع الغرب والعالم؛ وإيران بعقودها ومطامعها ومشروعها النووي ووضعها الداخلي تتراقص على صفيح من نار.
من جانبه، السوري الآن يطالب هاتين القوتين أن تعلنا نفسيهما إما قوة انتداب (وهذا يرتب عليهما التزامات لا طائل لهما بها. وبإمكانهما سؤال الانتداب الفرنسي عن فعل السوريين تجاهه). وإن لم تكونا قوة انتداب، عليهما إعلام نفسيهما قوة احتلال؛ وعندها لن يكون السوريون أقل شكيمة من الأوكرانيين، وسيرى المحتل كيف تكون الهزائم. ولتعلم هاتان القوتان أن عقودهما مع دولة العصابة لم تُكتب بحبر، بل بما زُهق من دم سوري؛ وسيكون مصيرها مزابل التاريخ، بصحبة مَن وقّعها.
أما بخصوص القوة الثالثة على الأرض السورية، فيؤسفنا كسوريين تفكيرها بلقاء هذه العصابة الأسدية مع معرفتها وإقرارها وتصريحها بإجرامها. نقدر أن لها مصالح، ولكن ليس بالضرورة أن تتحقق بطريقة لا أخلاقية. ونحذّر بأن هناك “لعنة” خاصة لدولة العصابة؛ يعز علينا أن تصيبها؛ وخاصة إذا كان التفكير بأن هكذا خطوة قد تسهم بتحقيق مكاسب “انتخابية”؛ فقد يكون العكس؛ فالاستدارات اللاأخلاقية تؤدي إلى كوارث سياسية.
تجاه كل ذلك، ماذا علينا أن نفعل كسوريين؛ وكيف تكون استعادتنا لدولتنا؟ لا أريد رسم الصورة المثالية للدولة التي نريد؛ ولكن حتى لو أنشأنا دولة واحدة لكل أهلها- ولو بدائية- ولكن خالية من منظومة الاستبداد الأسدية وشبّيحتها، فستكون دولة محترمة كريمة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا