منذ اليوم الأول لعودة الإمام الخميني من منفاه الإختياري في فرنسا، الى طهران، “منتصرًا” على نظام الشاه، بدأت ملامح الخلافات والتباينات في صفوف أبناء الصفّ الواحد المناهض لشاه إيران محمد رضا بهلوي، تتظهّر بشكل جليّ، بخاصة بين الخميني وآية الله محمود طالقاني، وعدد آخر من رجال الدين الذين شاركوا في صناعة وقيادة “الثورة” التي أطاحت بالشاه، وأبعدته عن البلاد.
ومن بين تلك القيادات، التي كان لها عظيم الأثر في إنتصار “الثورة”. علمًا أن آية الله طالقاني، (مولود في 5 آذار/ مارس 1911، في مدينة جيليارد، وتوفي في 10 أيلول/ سبتمر 1979). كان على إتصال دائم وشبه يوميّ مع الإمام الخميني في منفاه الباريسي، خلال الثورة الشعبية في الداخل الإيراني ضدّ الشاه.
ومعلوم أن طالقاني، هو سليل عائلة دينية معروفة في طول البلاد وعرضها، تابَع دراسته في مدينة قمّ، التي أهلّته ورفعته الى مرحلة الإجتهاد، وحَمل لقب آية الله، قبل إنتقاله الى العاصمة الإيرانية طهران، في عقد الثلاثينات، حيث عمل بالتدريس في “جامعة سباهسلار”، وهناك، إنضمّ الى الحركات السياسية المناهضة لنظام الشاه، وحكمه الديكتاتوري، ولم يتأخر في تأييد توجهات حكومة د. محمد مصدق، الذي أصدر قرارًا يقضي بتأميم صناعة النفط الإيراني.
التحق طالقاني بـ”الحركة الوطنية الإيرانية”، التي أمر الشاه بحلّها، فبادر طالقاني الى تأسيس “حركة المقاومة الإيرانية”، وشارك في تأسيس “حزب حركة حرية إيران”، وأعلن دَعمه لجماعة “فدائيان إسلام”، التى أسّسها نواب صفوي، ولاحقًا، برز طالقاني، كأحد أبرز الناشطين في “حركة الحرية الإيرانية المعارضة”، المناوئة للشاه، الامر الذي أدى الى ملاحقته أمام قضاء الشاه، وتمّ دفعه الى السجن عدة مرات، آخرها فى منتصف عقد السبعينيات، قبل الإفراج عنه بفعل الضغوط الشعبية المتكررة المطالبة بإطلاق سراحه.
وعقب إبعاد مصدق وإسقاط حكومته، برز دور “جماعة الخميس”، التي كان يتزعمها آية الله بهبهاني، التي أخذت إسمها من موعد اللقاء في ما بين أعضائها، والذي كان يتمّ مساء الخميس، في مقرّ بهبهاني، كما برزت جماعة أخرى، ضمّت رجال دين مناضلين حقًا، كانوا يعتبرون أن الحركة الدينية ضرورية للمجتمع، وحاجة ملحّة لإخراج إيران من أزماتها، على رأس هذه الجماعة، آية الله محمود طالقاني، وكانت تُسمى “جماعة الأربعاء”. التي فتحت الأبواب وشرّعتها أمام الظهور الجدّي لطالقاني، وإنطلاق حراكه السياسي في البلاد.
وبعد إنتصار “الثورة” رسميًا، عيّن الخمينى، صديقه المقرّب اليه طالقاني، إمامًا لإلقاء خطبة الجُمعة في العاصمة الإيرانية، طهران، في محاولة منه لإبعاده عن الشارع الشعبي، ما يُتيح له تصفية مناوئيه من السياسيين الليراليين، وكبح جماح معارضتهم، ليتسنى له المُضي في مشروع “الولي الفقيه”، من دون أيّ معارضة، لكن طالقاني، عارض إستبداد السلطة الدينية الجديدة بقيادة الخميني، ورفض التصفية السياسية للمعارضين من ذوى التوجهات الليبرالية واليسارية، وعمليات الإعدام العلنية الممنهجة بحقّهم.
لم يتأخر طالقاني، في إبداء خشيته وتخوّفه من عودة القمع إلى البلاد فى صورة جديدة. وحاول تسخير علاقته الجيدة مع القوى السياسية المنفتحة والجماعات اليسارية “الليبرالية” في البلاد، التي تعززت مع قياداتها إبّان تواجده معها في سجون الشاه، وحاول فتح كوّة في جدار الخلاف بينها وبين الخميني، لكن الأخير تجاهل الأمر، وانصرف الى تحقيق مشروعه الديني، وتكريس رؤيته الخاصة لمستقبل البلاد في ظل حكومة “الوليّ الفقيه”، أو ما سمّي لاحقّا “جمهورية الوليّ الفقيه”، فوضعت هذه المحاولة حدّاً فاصلًا لعلاقة طالقاني مع الخميني.
ومع إصرار الخميني، على بدعة إقامة “جمهورية ولاية الفقيه”، في إيران، التي عارضها الكثيرون من رجال الدين، لم يتردد طالقاني في إبداء رأية، وتأكيد معارضته لهذا التوجه، ورفضه المطلق لـ”ولاية الفقيه”، لأنه كان مؤمنًا إيمانًا مطلقًا بأن دور دُور العبادة، والمسجد بشكل خاص، هو المكان الطبيعي لرجال الدين، من أجل القيام بأدوارهم الروحية. وأوضح أسباب هذا الرفض، مؤكدًا وخشيته من “ديكتاتورية” دينية جديدة في البلاد، إلّا أن الخميني رفض مجرّد فكرة النقاش في أمر “الجمهورية الوليدة تحت عنوان “جمهورية الوليّ الفقيه” واتخذ قراره النهائي في هذا التوجه، وشرّع في تنفيذه في طول البلاد وعرضها.
عرف عن طالقاني، تميّزه عن الكثيرين من رجال الدين المتشدّدين، وأولهم الخميني نفسه، رفيق دربه في النضال ضدّ الشاه، على الرغم من إنتمائه الى ما يعرف بـ”المؤسسة الدينية، فكان يشدّد على أن رجال الدين والعلماء الشيعة، لا يشكلون طبقة مختلفة عن بقية خلق الله، من الطوائف الأخرى، ويرفض أن يكون لهذه الفئة من رجال الدين، مزايا خاصة تتمتّع بها، دون سواها من أهل الحلّ والربط في البلاد، الأمر الذي رفضه الخميني، فعمد طالقاني الى إنتقاد الوضع المُستجد ورَفضه، ما وضعه في مواجهة مباشرة مع الخميني.
وأكد طالقاني، في البدايات، أن “الجهاد حقّ مطلق، إذا أقفلت أبواب النصيحة أمامه”، واشترط لـ”وجود الجهاد، ضرورة توفر رجل الدين أو الإمام العادل، ليحقق الجهاد مراميه وفوائده في المجتمع”، مشدّدًا على “ضرورة وجود رجل دين صالح، يقود الحراك الثوري والجماهير الى أهدافه، ورأى في الخميني ما يؤهله لهذا الدور”.
لكن طالقاني، كان حذرّا من تسلّط الخميني، ومحاولته التفرّد في القرار، وفرض نفسه وليًا على البلاد والعباد، فقال خلال إلقائه خطابًا في “جامعة طهران”، أمام حشد كبير من الإيرانيين، جملته الشهيرة: “أخشى عودة الإستبداد مرة أخرى إلى إيران، في هيئة جديدة”، ومع إنتهاء طالقاني من إلقاء كلمته، بادرت قوة من عناصر ميليشيا “الحرس الثوري” الى إعتقال إثنين من أبنائه، فخرج الخميني لاحقًا، وقال: “إن القبض على نجليّ طالقاني كان لأسباب لن نذكرها، لكنها لا تحمل أيّ ضغينة”.
بعد هذه الواقعة، قرّر آية الله طالقاني، اعتزال العمل السياسي، والعودة الى صفوف المعارضة، وأغلق مكتبه ومنزله في طهران، وقرّر الذهاب إلى مكان لم يعلن عنه، ما دفع الإيرانيي المؤيّدين له، إلى النزول الى الشوارع في مظاهرات كبيرة، وهم يهتفون: “يا طالقاني أنت روح الثورة، ونحن نحبك”.
ويقال أن الخمينى، أجبر طلقاني على الظهور أمام وسائل الإعلام، في وقت لاحق، والقول: “لا توجد خصومة بينه وبين نظام الخميني”.
وفي الواقع، توقف الصراع نهائيّا بين الرجلين، مع إعلان “التلفزيون الإيرانى” الرسمي، وفاة آية الله طالقانى، متأثرًا بآلام في الصدر في أيلول/ سبتمبر 1979. وأعلن رئيس الحكومة في حينه مهدي بازركان، أحد أصدقاء طالقاني المقربين، الحداد ثلاثة أيام في البلاد. وقيل في حينه الكثير عن ظروف وأسباب وفاته، وذهب البعض الى القول: “إن موته كان مُدبّرًا”.
المصدر: المدار نت