أشرنا في مقالات سابقة الى عدد من رجال الدين الإيرانيين، الذين أيّدوا “الثورة الإيرانية”، ضدّ شاه إيران، محمد رضا بهلوي. من هؤلاء المرجع الديني الشيعي البارز آية الله محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي، المولود في (31 آب/ أغسطس 1928، والراحل في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2001”)، والذي كان إيمانه مطلقًا في “مبدأ الشورى”، و”الديموقراطية الإلهية” التي جاءت في القرآن الكريم، وقول الله تعالى: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38)، وقوله تعالى: “.. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ” آل عمران 159.
كان الشيرازيّ، قد سبق الإمام الخُميني، في التسويق لنظرية “ولاية الفقيه”، فقد كان الخُميني يطرح في الأربعينيات، إدخال العلماء في مؤسَّسات الدولة، تحت مظلّة الشاه وحكمه، ولم يتّخذ القرار بمواجهة سلطات الشاه، إلّا بعد أحداث “المدرسة الفيضية” في قمّ، عام 1963 م. وبعد هروبه من إيران، بدأت تتشكّل عنده “نظرية ولاية الفقيه”، واستقرّ عليها في نهاية عقد الستينيات، بعد إلقائه سلسلة محاضرات في النجف، ترجمها أحد قادة “حزب الدعوة” محمَّد مهدي الآصفي، وجَمعها لاحقًا في كتاب “الحكومة الإسلامية”، (المقتبس بتصرّف عن كتاب “الدولة الإسلامية” لمؤسّس “حزب التحرير الإسلامي” تقي الدين النبهاني في العام 1952، والذي سنتطرق اليه في مقالات لاحقة عند الحديث عن الخميني).
كانت العلاقة بين الخميني والشيرازي، قويّة ومتينة جدًّا، وتجلّت هذه العلاقة في الاستقبال الشعبي الكبير الذي أعدّه الشيرازيّ للخميني في العراق، بعد هروب الأخير من رجال “السافاك” الى أنقرة في تركيا، ولجوئه الى بغداد، بخاصة، وأنّهما كانا يمثّلان الخطّ المتشدّد في أوساط “الثورة”، المعارضة لنظام الشاه. على الرغم من عدم ترحيب مرجعيات “حوزة النجف” الأشرف التقليدية بالخميني، لأنه يطرح نفسه بديلًا لهذه المرجعية العربية للشيعة، المعروفة في العالم، بأنها المرجعية الطبيعية والوحيدة للشيعة في العالم.
عرف عن الشيرازي، منذ البدايات، تأييده لـ”الثورة الإيرانية” ضدّ الشاه، ووقوفه الى جانب الخميني، لكن هذا الوقوف والتأييد لم يمنعا الشيرازي من توجيه إنتقاداته لفكر الخميني، مشدّدًا على “ضرورة إشراك كلّ الفقهاء والمراجع الدينية في أمر الولاية”. وقال في كتابه “كيف نَجمع شَمل المسلمين”: “إن قوام الحكومة الإسلامية، شورى المراجع الذين هم مراجع تقليد الناس.. لأنهم نواب الأئِمّة، الذين نصّبوهم حكامًا وخلفاء”.. والفقيه الموالي يجب أن يكون شريكًا كاملًا في الحكم”.
والجدير بالذكر، أن الشيراززي، الشاب، أسّس في منتصف عقد الستينات، في مدينة كربلاء العراقية، “فرقة الشيرازية”، التي وسَمت التشيُّع بفهمٍ خاصّ، ذات رؤية تنتقد غيرها من الفِرق الشيعية، والمراجع التي لا تنتمي اليها، وباتَ لها تيّارها السياسي والفكري الخاص، الذي نافس بقية التيارات الشيعية، ومنها “حزب الدعوة”، وتقاسَم معه الشارع السياسي، الأمر الذي حذّر منه زعيم ما كان يُعرف في حينه بـ“حركة المرجعية” السيد محسن الحكيم. كما حذّر الإمام الخوئي من سطوة وحصور الشيرازي، ومن إنتشار تيّاره الوليد في الأوساط الشعبية الشيعية.
وفي المرحلة السالفة الذكر، ترك الشيرازي العراق، وهرب الى الكويت خوفًا من نظام “حزب البعث العربي الإشتراكي” الحاكم في العراق، قبل أن يلجأ الى موطنه الأصلي في إيران. حيث دخلت حركته “الشيرازية” مرحلة جديدة من النموّ والانتشار، وفي هذه المرحلة، لم يكن يختلف في رؤيته للنظام الإيراني في عهد الشاه عن سواه، وأيّد “مبدأ ولاية الفقيه”، شأنه شأن نائب الخميني في حينه، آية الله حسين منتظري، وذلك في أوجّ إنتصار “الثورة” وانتشارها في العام 1979، وأخذت حركته التي عرفت بـ”منظمة العمل الشيرازية” لاحقًا، بقيادة محمَّد تقي المدرسي، حيّزًا كبيرًا في الشارع الإيراني، ودخل أفرادها في أسلاك الجيش والشرطة، وفي كافة فروع الأجهزة الأمنية المُستحدثة، ونًصبوا المشانق في طول البلاد وعرضها، لكلّ من يعارِض “الثورة”، ويرفضها.
ومع إنتشار “الشيرازيّة” لاحقًا في كلّ مفاصل الدولة الإيرانية، ركّزت عملها في أوساط الحسينيات والمنابر الإعلامية، من أجل نشر أفكارها وتعاليمها وبسط نفوذها، واكتسبت قاعدة شعبية واسعة في الاوساط الشِيعِيَّة، في منطقة الخليج العربي، عمومًا، وبخاصة في كل من إيران والعراق، وعملت على نشر التشيُّع في كثير من البلدان الافريقية، وبلاد المغرب العربي، من خلال مجموعات تبشيرية خصّصتها للمناطق والدول، ذات الأغلبية من المسلمين السُّنَّة، من دون أيّ خطوة تبشيرية في الأوساط الشعبية لغير المسلمين، من المسيحيين أو اليهود.
وكما هو معلوم، كان منتظري نائبًا رسميًّا للخُميني، وكان محسوبًا على التيَّار المحافظ المتشدّد، الذي يرفض إمكانية التقارب مع الغرب، ومع دول الخليج العربي. في حين كان كلّ من هاشمي رفسنجاني والسيد علي خامنئي، يمثلان التيّار “البراغماتي” المناهض لآية الله منتظري، ولا يرفض التواصل والإنفتاح على الغرب في حينه. بينما كان التيّار “الشيرازي” المتشدّد معاديًا للعرب. وقد نفّذت “ميليشياته المسلحة عدة عمليات عسكرية داخل الأراضي العراقية، خلال الحرب العراقية/ الإيرانية، كما تعاونت في كانون الأول/ ديسمبر 1981، مع “حركة الرساليين” بقيادة الحكيم، على الشروع في محاولة الإستيلاء على السلطة في مملكة البحرين (حاليًا)، الأمر الذي أدّى الى طرد سفير الخميني في البحرين، الذي كان على علم بمحاولة الإنقلاب في البلاد، وعمل على تسهيل مهمّة بعض المتورطين في محاولة الإنقلاب من الإيرانيين والبحرانيين.
رفض الشيرازي، “السلطة المطلقة للوليّ الفقيه. كون الحكم في الإسلام ليس دكتاتورياً، وأن الحاكم الذي يأتي إلى الحكم عبر انقلاب عسكري، مرفوض من قِبل الإسلام، حتى لو كان الحاكم مسلماً، إذ أن الإسلام يشترط موافقة آراء الأكثرية، وهذا الانتخاب لا يأتي من خلال التظاهرات والاحتفالات، بل من خلال الانتخابات العامة، التي يجب أن تحصل كل أربع أو خمس سنوات، من أجل اختيار الحاكم العام، والحكام المحليين وفق رأي الأكثرية”. وبدأ خلاف الشيرازي الجدّي مع الخميني، ونظامه الجديد.
لم يتردد الخميني، في إبعاد الكثيرين من خصومه من رجال الدين، وكلّ مَن يعارضه في طرحه وأفكاره، وكان لإعتقال سلطات الخميني لآية الله شريعتمداري، أحد أهمّ المراجع الدينية وأكبرها في مدينة قمّ، عظيم الأثر في نفس الشيرازي، بخاصة، بعد الإدعاء على شريعتمداري، بمحاولة اغتيال الخُميني، الذي وضعه قيد الإقامة الجبرية، وإشتراط عليه الإعتذار من الخميني وطلب العفو منه، منأجل الإفراج عنه. بعد وقوع هذه الأحداث المؤسفة، التي حدثت بعد الثورة، واستئثار الخُميني بالحكم، وغياب دولة العدالة، أدرك الشيرازيُّ أنّ “الثورة” لم تبدّل شيئًا، وأن نظام الخميني الجديد، جاء بديكتاتور بديل لديكتاتورية الشاه، فقال: “إن ديكتاتورية الشاه، أقلّ خطرًا وأخفَّ ضرَرًا على الناس، من ديكتاتورية جديدة، تتلبّس لباس الدين والمذهب، وتتحدث باسم الله في الأرض”. الأمر الذي أبعد الشيرازي عن الخميني نهائيًا.
بعد خلاف الشيرازي القويّ والمستعصي مع الخُميني، ذهب الشيرازي الى التنظير لـ”مبدأ الشورى”، وعمل على هدم “نظرية ولاية الفقيه” من أساسها، وأطلق نظرية “شورى الفقهاء”، التي تقوم على اختيار الأُمَّة عددًا من الفقهاء، يديرون الحكم بالشورى، ويحتكمون لرأي الأغلبية، ورفض الشيرازي ولاية فقيه على فقيه آخر، قائلًا: “الفقيه حُجَّة على مقلِّديه لا على فقيه آخر، أو مقلِّدي فقيه آخر، ولا فرق بين الفتوى والحكم”. ما يعني أن رأي الخُميني يكون حُجَّة فقط على مقلِّديه، ولا يكون حُجَّة على فقيه مجتهد مثله، وهكذا، نزع الشيرازي فكرة “القداسة” عن فكر الخُميني، وتميّزه عن أقرانه من الفقهاء في إيران، وخارجها مثل النجف، وجبل عامل في لبنان. وشدّد على أن “الشورى” مُلزِمة، وأن انتخاب المقلّدين للمرجع لا يوكله بالمضيّ في إنفاذ قناعاته ورؤاه بعيدًا عنها، ذلك أنّ الإمامة في الفقه الإمامي لا شورى فيها، فالاختيار من الله، والحاكم نائب عن الله، ولا يمكن اعتراضه أو تصويب مساره. وهذا قريب جدًّا من نظرية محمد باقر الصدر، الذي دعا الى “ولاية الفقيه المنتخب”.
بعد هذه المواقف المعلنة من الشيرازي، وتسويقها في الأوسطات الفقهية والشعبية الشيعية، وإنتشارها كالنار في الهشيم، عمدت سلطات الخميني الأمنية الى وضع الشيرازي في الإقامة الجبرية، وأجبرته على الإعتكاف في منزله، كما حَدث لاحقًا مع آية الله منتظري، الذي كان نائب الخميني الأول، والمرشَّح الأقوى لخلافته في رعاية “جمهورية ولاية الفقيه”. وتوفي آية الله الشيرازي في منزله في مدينة قمّ، التي نقل منها الى “النجف الأشرف”، قبل مواراته الثرى في مدينة كربلاء العراقية.
المصدر: المدار نت