تصدّرت، أخيراً، أخبار عن عملية عسكرية تركية محتملة في شمال سورية، موقعاً متقدّماً في الصحف ووسائل الإعلام التركية، ما بين مشكّك ومؤكّد، وبشأن قدرة صانع القرار السياسي والعسكري في أنقرة على تجاوز “الفيتوهات” المتعدّدة التي وضعها الأميركيون والروس والإيرانيون في وجه أي تحرّك عسكري تركي في الشمال السوري. فجأة، غابت تلك الأخبار، وغابت العملية العسكرية التركية، وتصدّر المشهد خبر عن لقاء ممكن بين الرئيس التركي أردوغان مع رئيس النظام السوري بشّار الأسد. صحيح أن الخبر ليس جديدا، وجرى تناقله في السابق، لكنّ التفاصيل الجديدة المطروحة عنه، وكثافة تصريحات المسؤولين الأتراك جعلت منه موضع اهتمام من الجميع.
تحدّث أردوغان عن مراحل يجب أن تعبرها سفينة المصالحة بين تركيا وسورية، وأكد أن محطاتها يجب أن تكون مدروسة بدقة، وأن تجتاز رحلة تحضيرات اللقاء بوابة الأمن عبر لقاءات مكثفة لاستخبارات البلدين في البداية، ثم تمر السفينة لتعبر بوابات وزارتي الدفاع من الجانبين، قبل أن تصل إلى وزارتي الخارجية التي يُفترض أن توضع فيهما اللمسات الأخيرة لقمة ومحطة نهائية تتمثل بلقاء أردوغان والأسد.
مؤكّد أنّ التحرّك التركي وطلب اللقاء مع دمشق يشكلان إعادة تموضع سياسي لأنقرة، بدأت ملامحه منذ عامين تقريباً، عبر أجواء مصالحات تركية مع الرياض وأبوظبي والقاهرة، وعبر تطبيق سياسة قديمة جديدة من خلال عودة الدبلوماسية التركية لسياسة “صفر مشاكل مع الجوار” التي طرحها أحمد داود أوغلو، إبان كان وزيراً للخارجية، لكنها لم تنجح في حينها، بل وصلت تركيا إلى العكس تماماً عبر “صفر مصالحة” مع معظم الدول المحيطة بها. واليوم تتموضع بشكلٍ يحاول أن يحقّق ما فشلت به الدبلوماسية التركية بالأمس، وإن كان هذا المبدأ لم يشمل بعد اليونان و”قوات سوريا الديمقراطية” في شرقي الفرات السوري. ولم يتأتّ القرار التركي بالمصالحة مع الأسد من فراغ، بل ركنت إليه أنقرة عبر خطّة عملت عليها وزارة الخارجية الروسية، من خلال جهود مكثفة لوزيرها لافروف الذي مارس كل أشكال الضغط على أنقرة للقبول بالخطّة الروسية. وتعاملت أنقرة بإيجابيه مع الطروحات الروسية ووافقت على الخطة، لكن بعد إدخال تعديلاتٍ ومقترحاتٍ، ثم ما لبث الرئيس أردوغان أن طرح دعوته إلى قمة ثلاثية تجمعه مع الأسد، بحضور الرئيس الروسي بوتين الذي رحّب بالمبادرة التركية، واعتبرها خطوة إيجابية من نظيره التركي.
وفي تفسير التصريحات التركية ودعوة أردوغان إلى القمّة الثلاثية، يقول محلل سياسي تركي إن ما طرحه أردوغان يرتكز على خطة أنجزتها الدبلوماسية التركية، وتستند لخريطة طريق تريدها أنقرة للحوار مع دمشق، تعبر فيها عن رؤيتها للحلّ في سورية، باعتبار أنّ تركيا مدفوعةٌ بقوة إلى البحث عن حل للقضية السورية، لكونها أكبر المتضرّرين من ركود مسار المفاوضات، وغياب أي بوادر توحي بقرب الحلّ السوري، وأنّ وجود نحو خمسة ملايين سوري على أراضيها، وستة آخرين في الداخل السوري، بشكلٍ ما، هم تحت رعايتها، يجعل منهم مشكلة وأزمة للقيادة والشعب التركيين، بعكس روسيا والولايات المتحدة وإيران وباقي الدول غير المتأثرة بموضوع اللاجئين السوريين، وبالتالي على أنقرة أن تنشّط مسار الحل، وتطرح المبادرات لإبقاء ملف الحل السوري على الطاولة ومتداول بشكل دائم.
في الجانب الآخر، كان متوقعاً أن يتلقف نظام الأسد الطرح التركي ويتجاوب معه، على الأقل لتخفيف الحصار السياسي والدبلوماسي المفروض عليه، وباعتبار أنّ الدعوة قادمة من دولةٍ لطالما تحدّثت عن ضرورة إسقاط الأسد ونظامه، بل تحدّثت عن قرب الصلاة في الجامع الأموي في دمشق وزيارة قبر صلاح الدين بعد مساهمتها بإسقاط نظام الأسد، لكن ما حصل أن ردود دمشق كانت باردة ومتردّدة، بل وضعت تصريحات مقرّبين من الأسد شروطاً على أنقرة قبل البدء بأيّ مصالحة أو القبول بعقد لقاء قمة، فوزير خارجية الأسد، فيصل المقداد، اشترط الانسحاب التركي من الأراضي السورية قبل هذا اللقاء، أو على الأقل وضع الأتراك جدولاً زمنياً لخروج قواتهم وانسحابها من سورية، ثم يعقبها تعهد تركي بوقف دعم المجموعات المسلحة (بحسب تعبير المقداد). وذهبت المستشارة السياسية للأسد، بثينة شعبان، إلى أبعد من ذلك، عندما شكّكت بالنيات التركية وتصريحات المسؤولين الأتراك، عندما اعتبرت دعوة أردوغان للقاء مع الأسد غير حقيقية، ووسيلة لإغاظة أطراف آخرين (الولايات المتحدة أو قوات سوريا الديمقراطية).
وقال الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، إنّ اللقاء مع الأسد ليس مجانياً، وإنّ هناك شروطاً على دمشق التزامها قبل حصول أي لقاء على مستوى الرؤساء، والذي، كما قال، لن يكون على حساب حلفاء تركيا في المعارضة السورية، ومن الشروط التي أكّدها كالن أن تتصرّف القيادة السورية بمسؤولية، وأن تبدد كلّ المخاوف التركية، وأن تتعامل وفود دمشق مع مفاوضات المسار السياسي بإيجابية، مع شرط تحقيق نتائج إيجابية قريبة ملموسة، وأن يضمن الأسد حماية العائدين إلى مناطق سيطرته من المدنيين، وأن تعمل دمشق على ضمان السلامة والاستقرار الإقليميين، وختم بضرورة فرض دمشق الأمن والانضباط والاستقرار على طول الحدود السورية التركية من الجانب السوري. وبقراءة سريعة لهذه الشروط، يدرك أبسط العارفين بمفاصل الوضع داخل سلطة الأسد أنّ دمشق غير قادرة على تنفيذ أيٍّ من البنود السابقة، لأنّ أي تقدّم في المسار السياسي يعني الانتقال إلى النقاش بهيئة الحكم الانتقالي وفق مدرجات قرار مجلس الأمن 2254، وأي تقدّم في المفاوضات السياسية يعني اهتزاز كرسي السلطة الذي يصادره بشار الأسد منذ 22 عاماً. أما موضوع أمان العائدين فلا قدرة لبشار الأسد على ضمانتهم بعد الفلتان الأمني الذي تعاني منه مناطق سيطرة الأسد، نظراً إلى غياب القيادة الحقيقية القادرة على ضبط عمل أجهزة الاستخبارات، إضافة إلى تنوّع مصادر القرار لدى أجهزة استخبارات الأسد، فمنها من يتبع لقصر المهاجرين في دمشق، ومنها من يتبع للحرس الثوري الإيراني، ومنها من يعمل بأوامر من قاعدة حميميم الروسية، أما ضمان حدود تركيا، فهذا الأمر من شبه المستحيل أن يلتزم به بشار الأسد، باعتبار أن كامل الحدود السورية مع الدول المجاورة أصبحت تحت نفوذ إيران أو حزب الله أو مليشيات عراقية تعمل بالأجندة الإيرانية أو خارجة عن سيطرة الأسد (قوات سوريا الديمقراطية والجيش الوطني). وأمام تلك الوقائع، تنطبق على سلطات الأسد قاعدة “فاقد الشيء لا يعطيه”، وهو الفاقد كلّ شيء، بما فيه السيادة السورية، فكيف يتعهد لأنقرة بما طُلب منه؟
لكن تلك المعلومة عن فشل الأسد في ضمان الشروط التركية لم تفاجئ أنقرة، بحسب قول سياسيين أتراك، أكّدوا أن كل الطروحات التركية، والأحاديث عن لقاء بين أردوغان والأسد، عن إعادة مليون ونصف لاجئ سوري طوعاً إلى الداخل السوري، وغيرها من تصريحات لمسؤولين أتراك تخص الشأن السوري، غايتها فقط سحب أوراق سياسية ضاغطة من يد المعارضة التركية والاستثمار فيها داخلياً بما تبقى من وقت، ريثما يحين موعد فتح صناديق الانتخابات التركية منتصف العام المقبل، وبعدها يخلق الله ما يشاء.
المصدر: العربي الجديد