الهوية السورية الضائعة والثورة المغدورة

أنور بدر

تلج الثورة السورية في هذه الأيام عامَها الثامن، على وقع الكارثة التي يعيشها السوريون، في الغوطة وفي جنوب سورية، كما في الوسط وفي عفرين وإدلب شمالًا، مع إحساس قاتل بالخيبة والعجز، إزاء تحول الثورة ضد نظام الديكتاتورية والفساد، إلى مسارات العسكرة والتطييف التي رعتها دول وأجندات خارجية، باتت المسؤولة الآن عن رسم ملامح الحرب الدائرة في سورية، باعتبارها حرب تصفية حسابات إقليمية ودولية، على حساب السوريين وبالضد من مصالحهم ومصالح سورية.

الكاريكاتيري في المشهد أن النظام البائس الذي يتخيل نفسه منتصرًا، لم يدرك حتى اللحظة أنه حين دمّر سورية وقتل السوريين وهجّرهم، مستعينًا بالميليشيات الطائفية التي استقدمها من كل حدب وصوب، كان يُدمّر استقلال سورية ووحدة السوريين، وأي أمل باستمرار سورية التي نعرفها.

فالجغرافيا السورية والهوية السورية باتت محل تساؤل ومساومات دولية وإقليمية، تثير الكثير من علامات الاستفهام حول طبيعة الثورة من جهة، ومستقبلنا كشعب، أو حتى كدولة فاشلة؛ ما يعجل بطرح إشكالات الهوية والمشروع الوطني السوري على النخب السياسية والثقافية، إن أرادت أن تسهم في استعادة الثورة المغدورة إلى طبيعتها الأولى وأهدافها النبيلة، كثورة حرية وكرامة تسعى للتوافق مع حركة التقدم البشري والنزوع إلى دولة المواطنة المتساوية والعدالة والديمقراطية.

هذا الجهد لا يمكن أن يكون مجرد ترف نظري أو سجالات في الوقت الضائع، إذ يمكن لأي ثورة أن تتراجع أو تتوقف في لحظة ما، إن لم نتمكن من تخليق الحامل الوطني الذي يجمعنا كمواطنات ومواطنين سوريين، قبل أن تأخذنا المساومات الدولية والإقليمية إلى مطارح لا تخدم مصالحنا أو مصالح سورية.

دعونا نستعيد ما كتبه أمين الريحاني “1876-1940” معرفا بنفسه: “أنا سوري أولًا، من منطقة جبل لبنان، وماروني بعد ذلك”، ولم يقل عن نفسه: أنا عثماني أو تركي، كانتماء إلى سلطة الدولة التي ولد وعاش في كنفها، كذلك لم يعتبر نفسه أمريكيًا، مع أنه يحمل الجنسية الأميركية وعاش جزءًا مهمًا من حياته في الولايات المتحدة. وهذا إن دلّ على شيء؛ فإنما يدل على مسألتين أساسيتين في فهم الهوية:

1- ضرورة الفصل، بين موضوع الجنسية وموضوع الهوية، إذ إنهما كثيرًا ما يتطابقان، لكن هذا ليس شرطًا بالضرورة، بل هو رهن بالمسألة الثانية.

2- ضرورة الشعور والوعي بالانتماء الذي يحدد الهوية، ومن دون ذلك يمكن للدولة أن تفرض جنسيتها، أو أن يحمل الفرد طوعًا جنسية دولة ما، كحال المهاجرين مثلًا، دون أن تستطيع تلك الجنسية خلق وعي أو شعور بالانتماء إليها، ودون أن يُفقِدْ هذا حامل الجنسية أيًا من حقوقه كمواطن.

مثال الريحاني الذي أشرنا إليه، لوحق وسجن في ظل الدولة العثمانية، كما نفي أحيانًا وهرب أحيانًا كثيرة، لكنه ظل يُصرّ على ترديد: إنه سوري أولًا، دون أن ينفي انتماءه إلى منطقة جغرافية محددة “جبل لبنان”، ضمن “سوريا” التي يعني بها “بلاد الشام”، إذ لم تكن قد تشكلت دولة سورية الراهنة في ذلك الزمن، ودون أن ينفي أخيرًا انتماءه الديني، رغم ما عرف عنه من تمرد على الطقوس الدينية، لأن تلك الانتماءات، أو ما يمكن اعتباره هويات صغرى، تشكّل فضاء ثقافيًا ومعرفيًا، وفي بعض الأحيان فضاءً سياسيًا، كحالة أمين الريحاني والكثيرين من معاصريه، الذين رفضوا وقاوموا سياسة التتريك والاستبداد التي سارت عليها دولة الخلافة العثمانية في زمنه.

فكلٌّ منّا يحمل -سواء في وعيه أم في داخله اللاواعي- مجموعةً من الهويات، الكبرى والصغرى، تتداخل أحيانًا، وقد تتصارع وفقًا لصيرورات نفسية وعقلية فردية وجمعية، متأثرة بالعديد من الشروط الذاتية والموضوعية، تؤدي إلى ثباتها النسبي أو تحولها، إذ لا وجود لهويات ميتافيزيقية ثابتة، ومثال الريحاني، بالمقارنة مع الواقع الراهن، يؤكد على ضرورة الفصل التام بين الجنسية والهوية، حتى لو تطابقتا، فقبل انحطاط الخلافة العثمانية، كان الانتماء إليها -بالمعنى الديني والجغرافي- هو الأساس، فيما كان أغلب سكان منطقة بلاد الشام يُعرفون أنفسهم بأنهم سوريون أو ينتمون إلى مدنهم وبلداتهم الصغرى.

وهذا يقودنا إلى إشكالية كتاب (المسيح السوري/ The Syrian Christ) 1916، الذي جمع فيه الأب إبراهيم متري رحباني بعض العظات التي كان يلقيها في الولايات المتحدة الأميركية باللغة الإنكليزية للتعريف بالمسيحية السورية، حيث طبع هذا الكتاب القيم 19 طبعة في أميركا، وثلاث طبعات في بريطانيا قبل عام 1923، وقد أشار الأستاذ أسامة عجاج المهتار، في مقدمة الطبعة الثانية من ترجمته الرائعة لهذا الكتاب عام 2001، إلى أن ذلك العنوان كان اعتياديًا في زمن صدور الكتاب منذ قرن تقريبًا، (أما اليوم فالوضع مختلف، سفارة دولة غربية كبرى رفضت أن أتكلم عن “المسيح السوري” في إطار مهرجان نظمته في إحدى الدول العربية، وقبلت على مضض “تسوية”، بحيث يصبح بحثي عن “إبراهيم متري رحباني كسفير بين الشرق والغرب”). كذلك “رفضت جامعة في لبنان رفضًا قاطعًا فكرة استضافتي محاضرًا عن الكتاب”.

لا يمكن فهم هذه الإشكالية بعيدًا من إطار التحولات الجغرافيّة والسياسة، التي تعكس بدورها تحولات أيديولوجية وهوياتية، إن صح التعبير، ففي ذلك الزمن كانت بلاد الشام سورية بامتياز، مع أنها تتبع -إداريًا- لسلطة الدولة العثمانية، التي اعترفت عام 1865 بهذه الحقيقة، حين ضمت ولاية صيدا إلى ولاية دمشق لتشكيل ولاية “سورية”.

لكن التطورات اللاحقة، وكل الوقائع التي أفرزتها خرائط (سايكس-بيكو) والحقبة الاستعمارية وصولًا إلى إنشاء دولة “إسرائيل”، جعلت شعوب المنطقة عالقة في فضاء دول سيادية، امتلكت رموزها القطرية من حدود وعلم ونشيد وطني، دون أن تفلح في خلق هوية وطنية خاصة بها، فالهوية الوطنية تفترض، إضافة إلى الجنسية، نمو مشاعر الانتماء لدى السكان، والوعي بمصالحهم أيضًا في إطار هذه الهوية، كي يتحولوا من انتماءاتهم الصغرى والكبرى، في حال وجودها، إلى شعب وفق مفاهيم الدولة الحديثة، لأن الشعب هو الذي يمنح مشروعية السلطة السياسية، عبر آليات ممارسته الديمقراطية الانتخابية لاختيار ممثليه، وعبر دستور ضامن لحقوق الأفراد، وكل الجماعات القومية والدينية، وضامن لحياد الدولة إزاء هذه الجماعات.

هذه الحداثة وتلك الديمقراطية، فشلت الدولة القطرية عمومًا، وفي سورية خصوصًا، عن تحقيقها، بل كانت سلطة “البعث” في سورية والعراق معرقلة لأي تقارب عربي، أو نزوع ديمقراطي، ومضادة لتحول السكان إلى شعب؛ لأنها تريدهم أفرادًا تابعين لسلطتها التي قامت على مشروعية ثورية/ ديكتاتورية من جهة، ومستظلة بأيديولوجية قومية/ عربية تحلّق خارج إطار الواقع وحدود الجغرافيا، ككل الحوامل السياسية/ الأيديولوجية الأخرى، سواء القومية، مثال “الحزب القومي السوري الاجتماعي” أو الأحزاب الإسلامية أو حتى الأحزاب الماركسية التي هتفت لديكتاتورية البروليتاريا الأممية، جميعهم شاركوا في خيانة الهوية الوطنية، ناهيك عن الانتماءات الأصغر الأقوامية والمذهبية، التي رفعت راية المظلومية التاريخية التي أنتجتها ممارسات سلطة الفساد والاستبداد، والتي هيمنت في أغلب عواصم الاستقلال.

خرائط (سايكس-بيكو) التي عَلِقتْ بها شعوب المنطقة ككل، عجزت عن الاستجابة لضرورات اللحظة التاريخية للاستقلال، وعجزت، بل رفضت تحريك عجلة التنمية السياسية والاقتصادية، على أساس دولة المواطنة المتساوية وحقوق الشعب باختيار ممثليه وممارسة الديمقراطية الانتخابية، وفق جغرافيا الاستقلال الذي أنتجها، ولم تستطع من جهة ثانية الخروج من أطر حدودها المرسومة، أو أن تحقق أيًا من طموحاتها الأيديولوجية الإسلامية أو القومية، رغم توفر حوامل سياسية لها، كما رأينا، وحتى حوامل اجتماعية في بعض الأحيان، لأن تلك الأنظمة السياسية التي أسقطت الشعب من حساباتها السياسية، لم تنتج غير النموذج الديكتاتوري للسلطة، ووظفت كل قوى الأيديولوجيا والدولة والمجتمع لخدمة سلطتها بالمعنى السياسي/ الاستبدادي، وتأبيد فسادها وآليات نهبها للثروة الوطنية بالمعنى الاقتصادي.

وعلى ذلك؛ فإن استعادة هويتنا السورية الضائعة في هذه الحرب المدمرة، هويتنا كشعبٍ يصبو إلى الحرية والحداثة والديمقراطية، هي مفتاح استعادة الثورة المغدورة من بازار المساومات الدولية والإقليمية التي نعيشها الآن، والتي تهدد حاضرنا ومستقبلنا.

المصدر: جيرون

تاريخ النشر:20 آذار 2018

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى