لم يتوقع حتى أكثر مناهضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يتحول فريق الحكومة الإعلامي، وجميع المنافذ الإعلامية الموازية لها، إلى مصدر لنقد حليف الحكومة الروسية، النظام السوري الذي نال الدعم الروسي العسكري منذ نصف عقد. النقد لطريقة إدارة الدولة، والفساد المشتري، والضعف المالي، وعدم تسهيل عملية التطبيع، ومشاريع إعادة الإعمار غير المكتملة لحكومة دمشق يتخلله الكثير من التحليلات والتفسيرات. شيء من الغرابة تبلور لدى أكثر المتابعين للموقف الروسي في الشرق الأوسط. لم يكن من طبائع البلد الذي يحكمه الرجل الجليدي بوتين أن يعكر إعلامه صفو علاقاته مع الدول المحسوبة عليه. فكيف ببلد أصبح رمزا لعودة روسيا المُفترضة إلى دور المنافسة في قيادة العالم؟ وإن كان في التوصيف شيء من المبالغة حسب المحللين الأوروبيين الذين يصرون على اعتبار روسيا دولة إقليمية أكثر منها زعيمة عالمية. توصيف يزيد من هياج روسيا ويدفعها للتدخل أكثر لإثبات العكس. لكن، على الرغم من كل ما سبق لم يكن من الممكن لكل الجهات المُراقبة تصور أن تتحول موسكو إلى التشهير والعدوانية الإعلامية تجاه حكومة دمشق. ولم يكن من المتصور أن تحاول موسكو ان تبتز السلطة التي عادت لتحكم ثلثي البلاد بعد أن حُجمت مساحة نفوذها إلى أقل من عشرين في المئة ذات يوم، أي بلغة أخرى ابتزاز حليف منتصر عسكرياً “ولو نسبياً” في حين كان الافتراض أنه خلال سنوات ضعف الحليف ذاك كان هناك نوع من القدرة على الابتزاز.
روسيا الصامتة
كل هذا الضجيج في الإعلام الروسي ضد سلطات دمشق لم يُصاحبه خصام واضح من حكومة موسكو. هدوء على جبهة الحكومة الرسمية مقابل نيران وإطلاق نار من خلال صحافة ذلك البلد المعروف بمدى طواعية الإعلام فيه للسلطة الحاكمة. شيء من العقاب غير الرسمي لحكومة دمشق على خلفية ملفات غير واضحة بعد للعيان، وتمرير للرسائل الغاضبة لها من دون إحراج مباشر لموسكو التي ترفض التعامل معها عالمياً على كونها داعمة للسلطات المُتهمة بالاستبداد. هذه الاستراتيجية المُعادية والمُجزأة توضح كيف تعمل الديناميكية تلك. الغضب الروسي على حكومة دمشق التي تشعر بدورها بإنها في موقف يساعدها على طلب بعض الاستقلالية من داعميها في حربها الداخلية تم ترشيقه إعلامياً. هذا الترشيق مؤشر على أن الروس أنفسهم يبحثون عن خيارات جذرية جديدة في المعادلة السياسية في دمشق. هؤلاء يطالبون الحكومة في دمشق بشيء من التطويع الأوسع. ترفض روسيا أن تشاركها أطراف أخرى في عملية تحديد مسار المستقبل السياسي والعسكري لدمشق. في حين تظهر مع كل خلاف صورة وزير خارجية إيران وهو في لقاء رسمي مع رأس النظام في دمشق. هذا التأرجح في بوصلة النظام السوري يأتي هو الآخر من سياسة إظهار بعض نقاط القوة في خضم كل هذه المعمعة، وليس نتيجة عن تيهان وضغط للحلفاء الآخرين في تنافس مع روسيا.
تضاد نسبي
ويستمر الحديث عن لعبة روسية كبرى لتغيير النظام السوري. هذه اللعبة التي لا تبدو أنها صحيحة أقله على المدى المنظور لا تلغي الحديث عن شقاق بين الطرفين طبعأً. هذا الشقاق كان بادي الملامح في معارك إدلب الأخيرة. كانت هناك رغبة واضحة من نظام دمشق وإيران من بعيد على التقدم أكثر في حين ظهر أن روسيا عادت لتفضيل مصالحها المتداخلة مع تركيا على بضعة بلدات أو مدن قد تخسرها تركيا للنظام. كذلك هناك خلاف واضح حول صمت روسيا عن الهجمات الإسرائيلية على المواقع العسكرية في سوريا. هذه الهجمات التي تؤذي بدورها حليفا آخر ينتظر التقدير على مشاركته الحرب حسب معياره هو وهذا الحليف هو إيران التي جاءت لمساعدة النظام قبل مجيء الروس. وأيضاً هناك خلاف مُبطن حول شكل الإدارة والدستور المقبل، ووضع الانتخابات المقبلة للرئاسة، والرفض لما تصفه دمشق من بعض الليونة في تعامل موسكو مع “قسد”. كذلك هناك انزعاج روسي واضح لخرق النظام للمعاهدات واتفاقات المصالحة في جنوب البلاد، والتي تمت برعاية روسية. هذه كلها لم يكن لها معادل أكبر من بضعة مقالات ظهرت في الصحافة الروسية في الأيام السابقة ضد حكام دمشق. ولا يتوقع الكثيرون داخل موسكو أن تشتد المعركة أكثر من هذا. الجميع في موسكو متأكدون أن خيار الخلاف السياسي المباشر سيفقد روسيا الكثير معنوياً على اعتبار أن هذا سيظهر روسيا، وكأنها كانت مخدوعة بحقيقة النظام هناك، أو كأنها تورطت في معركة لا يرغب الطرف الذي احتاج الدعم إلى رد الجميل، وإن كانت كل التمركزات العسكرية الروسية في سوريا، وصفقات الغاز في البحر، جزء من رد ذاك الجميل.
لا يتوقع الكثيرون في عموم روسيا أي استفاقة كبرى للروس ضد حليفهم القديم أي نظام البعث في سوريا. هذا واضح رغم الهجوم الإعلامي الأخير من صحافة موسكو القريبة للكرملين تجاه دمشق. ولم تؤثر هذه السحابة الداكنة لعلاقات البلدين على تصور هؤلاء. هذه قناعة مترسخة في موسكو، وهي صورة لذات القناعة الموجودة في دمشق، لذا تحاول الجهتان الرسميتان تفادي الدخول في نزال سياسي مباشر كي لا يخسرا صورتهما كحليفين حاربا معاً ضد “الإرهاب” حيث توصيفهما للمعارك في سوريا، ويبحثان معاً عن حل مستدام، وسلام شامل، وإعادة دورة الحياة إلى البلد المنهك والمتداعي اقتصادياً، واجتماعيا، وعسكرياً، ونفسياً حتى.
المصدر: القدس العربي