تستند تركيا في جولتها الجديدة في شرق سورية على مكانتها الدولية التي أكّدتها حرب أوكرانيا، إذ أصبحت أنقرة، وبحكم موقعها الجيوبوليتيكي المهم، وقدرتها على إدارة سياساتها بتوازن بين الفاعلين الدوليين، طرفاً مؤثراً في السياسات الدولية، يملك من الأوراق ما يدعم قدراته التفاوضية تجاه الفاعلين الدوليين، لدعم طلباته من البيئة الدولية وتأييدها.
بيد أن مشكلة تركيا في شرق سورية تتمثل بوجود توازنات دقيقة تم رسمها بعناية فائقة عبر سنوات طويلة من التدخل الدولي في سورية، وأي محاولة لتغييرها سوف تتصادم مع إرادات اللاعبين الآخرين، روسيا والولايات المتحدة، اللذين يقيمان وجودهما في سورية ضمن سياق الصراع على المفاصل الجيوبوليتكية، والذي بدأ يأخذ أنماطاً صراعية حادّة وساخنة في أعقاب الحرب الأوكرانية.
لا توجد في مناطق شرق سورية وشمالها أراضٍ فارغة، بمعنى ليست ممتلئة بنفوذ لاعبٍ خارجي، وتحديداً الروسي والأميركي، لذا فإن أي سيطرة جديدة لتركيا ستكون بمثابة قضم، ليس من حصة موسكو وواشنطن الأرضية، بل من هيبتهما ونفوذهما، بما سينعكس حكماً على فاعليتهما في سورية والمنطقة، وعلى أوراقهما التفاوضية في أي ترتيباتٍ مستقبلية، وهو أمر يضع أي تحرّك تركي في دائرة التخريب على المصالح الاستراتيجية العليا لكل من موسكو وواشنطن، بل سينظر كل طرف إليه على أنه اصطفاف مع الطرف الآخر في ظل هذا الصراع الحاد بينهما.
في هذه الأوضاع، لا تنطوي الاعتبارات القومية للأطراف الثلاثة على أوزان مهمة، وهي اعتبارات عليها أن تتوارى في هذه المراحل لصالح صراع “الخير ضد الشر” الذي يدّعي كل طرف تمثيله، وقد رأينا تطبيقات هذه الحالة بوضوح في الموقف الأميركي من قرار السعودية تخفيض إنتاج النفط للحفاظ على توازن الأسعار العالمية، وكيف اعتبرت واشنطن هذا الموقف بمثابة انحياز لروسيا، وموقفاً معادياً لها في هذه اللحظة الدولية الحرجة.
يربك إدراك تركيا لهذه التوازنات حساباتها وتحرّكاتها، وإذا وضعنا جانباً تصريحات المستويات السياسية التركية الحادّة، والتي تحاول الإيحاء من خلالها بأن القرار التركي مستقل، وينبع من تقديرات أنقرة لمصالحها القومية، فإن تحرّكات تركيا على الأرض تشي بعكس ذلك، ليس فقط لأن تركيا سبق أن فرملت تحرّكاتها لعدم وجود ضوء أخضر من الروس والأميركيين، بل لأن تحرّكاتها الحالية تحاول استجلاب عروض من موسكو وواشنطن، وتمنحهما الوقت الكافي لفعل ذلك.
استخدمت تركيا هذه السياسات في عملياتها الثلاث السابقة في سورية “درع الفرات 2017″ و”غصن الزيتون 2018” و”نبع السلام 2019″، فلم تُقدم على أيٍّ من عملياتها إلا بعد تنسيق مع الروس والأميركيين وتقديم أثمانٍ سياسية مقابلة، وأحياناً بسبب اتساق هذه العمليات مع مصالحهما ورؤيتهما لمشهد الصراع وتقديراتهما مدى تطابق مخرجات أي تحرّك تركي مع أهدافهما السورية.
على ذلك، تبدو أنقرة مضطرّة على خوض مساومات مكثّفة مع الروس والأميركيين في هذه المرحلة، وقد يجري إخراج الموقف بخلاف جميع السيناريوهات التي يتوقعها المراقبون للحدث، لكنها بالحكم ستراعي توازنات القوى في شرق سورية، في إطار توليفات ومقايضات معينة مع الطرفين. ولكن، ماذا لو أصرّت أنقرة على إدارة اللعبة بما يتفق مع مصالحها الأمنية وتصوّراتها لحماية أمنها القومي بدون أي اعتبار لمواقف الآخرين وحساسياتهم، هل سينتج عن ذلك تصادمها مع القوتين الروسية والأميركية في شرق سورية؟ وإن حصل كيف سيكون تأثير ذلك على مستقبل علاقات تركيا معهما؟
في ظل مشهد العلاقات المعقد والمتشابك بين الفاعلين الثلاثة لا يمكن تصوّر خروج الأوضاع عن إمكانية التفاوض والترتيب، فلا يمكن لتركيا في هذه اللحظة المغامرة بالعلاقات مع واشنطن، والدفع بها إلى حافة الخلاف غير القابلة للإصلاح، لأنها بذلك لا تخسر فقط الجانب الأميركي، بل إنها تخسر ورقة لعب مهمة مع الجانب الروسي الذي يقدّم التسهيلات الكبيرة لأنقرة في مجالات عديدة لموازنة علاقاته معها بالعلاقات الأميركية.
ولعل نافذة الخروج من هذه الوضعية المربكة ستكون من خلال سيطرة تركية متساوية ومتوازنة على أجزاء من مناطق سيطرة الروس والأميركيين، من قبيل السيطرة على عين العرب مقابل السيطرة على تل رفعت، وإنْ سيجري الأمر على أساس اعتبارات أمنية وليس نتيجة اختيار عشوائي أو محاولة لإرضاء الروس والأميركيين، إذ لطالما اشتكت تركيا من استهداف المجموعات الكردية لها من هاتين المنطقتين.
ثمّة مؤشراتٌ على أن الطرفين، الروسي والأميركي، يقدّمان العروض للجانب التركي لتجنيب المناطق الخاضعة لنفوذهما من الهجمات التركية، ومن المؤكّد أن هذه العروض تترك للجانب التركي خيارات السيطرة على الجانب الخارج عن نفوذ كل منهما، لإشغال تركيا وتصريف طاقتها بعيداً عن مناطق كل طرف، ولتعقيد علاقات أنقرة مع الطرف الآخر، لكن القرار التركي سيتم بناؤه، في الغالب، بناء على حسابات أكثر تعقيداً تأخذ بعين الاعتبار المحرّكات الداخلية بالاعتبارات الجيوسياسية وإدارة تعقيدات علاقات تركيا الدولية وتوجهاتها في المرحلة المقبلة.
المصدر: العربي الجديد