لطالما كانت الحياة السياسية التي تشكلت في البلدان العربية والمسلمة تشكل علاماتِ استفهامٍ ضخمةً في أبعادها النفسيةِ ودوافعِها ومبرراتِها العقلية، وأظنَّ أنَّ هناك ثلاثَ تجارِب علينا أن نمعن في تحليلها ودراستها من ذلك الجانب، وهذا بالطبع لا يمكن اختصارُه بمقالة أو كتاب هنا وهناك، لكنَّها أولُ خطوة ضرورية في طريق الألف ميل.
أول تلك التجارب التي سنتناولها هنا، هي: التجربة العونية في لبنان، التي تملك ازدواجيةً عجيبةً تجعل المتفرج يضيع في تفاصيلها، لكن لمن ينظر بعمق يدرك أنَّها تمثلُ حالةً متقدمةً للشخصية المتشظية لمجتمعاتنا الشرق أوسطية إذا تمكنت يومًا من الوصول إلى صناديق اقتراع حرة نسبيًّا . التجربة العونية تعني: أن تكون معارضًا وفي السلطة في الوقت نفسِه، وأن تكونَ محاربًا للفساد وأنت جزءٌ أصيل منه، وأن تكون مدافعًا عن دولة القانون وحليفك الإستراتيجي الذي أوصلك إلى السلطة يمتلك جيشًا وأمنًا واقتصادًا ومعابرَ خارج القانون! بالطبع هذه ازدواجيةٌ قبيحةٌ لا يختلف عليه عاقلان، لكنَّ البعدَ النفسي والفكري الذي نحب أن نبحث له عن إجابة؛ هو كيف استطاع التيارُ العونيُّ الصمودَ والنجاح وسوقَ المبررات لناخبيه حتى يعيدوا انتخابه؟ هواجسُ التهديدِ بفقد المكاسب المغتصبة أساسًا والتي منحها الانتدابُ الفرنسي لطائفة على حساب شعب بكامله، أو الحلول البراغماتية التي هي حبلُ النجاةِ الوحيدُ لأجواء إقليمية ودولية تريد ترجيح كفة طرف على حساب أطراف أخرى، مبررات لا يمكن أن توازيَ حجم الدمار الذي سببته هذه الازدواجيةُ في المعايير والتي أوصلت لبنان إلى مصافي الدول الفاشلة، بعد أن كانت مركز إشعاع ثقافي وفكري مهم!
التجربة الثانية التي تستحق الوقوف والتأمل: هي تجرِبة عسكرةِ الدولة في مصر بعد عام 1970 والتي حولت مصر من دولة رائدة في قارة إفريقيا والعالم؛ وتتمتع بأعلى مستوى من الأمن المائي والغذائي إلى دولة فاشلةٍ مهددةٍ بالمجاعة المائية والغذائية! سمعنا كثيرًا عن دول تمتلك جيشًا قويًّا، لكن التجربةَ المصرية تشكل انقلابًا في الموازين السائدة، حين يصبح جيشٌ ضعيفٌ يمتلك دولة إستراتيجية عاجزة، لقد حمل لنا تاريخُنا الإسلامي تجربةً مشابهةً في العصر المملوكي، لكنَّ المعادلة في وقتها كانت “جيشٌ قويٌ يمتلك دولةً قوية”، وذلك الجيش اكتسب شرعيتَه من قدرته على مقارعة الأعداء والدفاع عن الأمصار والأعراض وأرواح الناس في وجه الطامعين! في البعد النفسي الفكري للمصريين كان رضوخُهم للغوغائية والانحدار الفكري والمبررات السخيفة التي تسوِّقُها الأوليغارشية العسكرية رغم وجود حجر زاوية عظيم اسمُه الأزهر، يشكل علامات استفهام تحتاج إلى إعادة تفكير إستراتيجي لدى النخب الفكرية!
التجربة الثالثة: هي تجربة الثيوقراطية التي حكمت أغنى وأكبر دولتين في الشرق الأوسط إيران والسعودية، اللتين جعلتا من الدين مطيةً طيعةً للاستيلاء الفكري-النفسي على عقول الناس، وأدخلتا منطقة الشرق الأوسط بالثروات المنهوبة في صراع دموي أساسُه الفكريُّ لا يؤمن به سادتُه أنفسُهم؛ إلا كونه وسيلة طيعة لتخدير عقول الشعوب وتمرير بقائهم في السلطة المرتبط أساسًا بالقرارات الدولية! لكن المشكلة الفكرية-النفسية تكمن في عقول النخب الفكرية والاقتصادية والاجتماعية؛ التي أصبحت ملكية أكثر من الملك وكانت ومازالت مادةَ التخدير الأنجع في تلك المعادلة!
الهدف من توصيف هذا الثالوثِ السياسي ؛ هو إدراك البعدٌ الفكريٌّ-النفسيٌّ في شعوب أبناء جلدتنا؛ الذين لم يعودوا يستطيعون الخروج منه مهما حاولوا! حيث يُحقن في عقول تلك الشعوب التي وصلت لمرحلة الانحلال الكامل مادة مخدرة فعالة بواسطة محقنة يملكها رؤوسُ تلك الأنظمةِ السياسة، لكنَّ المادة المخدرةَ التي تقتل شعوبَنا ببطءٍ يُصنعها نخبُه الثقافية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والطبقات الواعية الوسطى التي بدأت تضمحل شيئًا فشيئًا؛ بالهجرة والتفقير ووطأة الحاجة وضعف النفوس! نهضةُ الدولِ تبدأ من هؤلاء الذين صدحوا بالواقع والحقيقة على مرارتها، ولم يتركوا الأمر للصدفة أو المعصية تحت ثقل الواقعية! المحاقن ستبقى، لكنها ستفقد تأثيرها؛ حين يفقد المخدرُ مفعولَه، وهذه مسؤوليتنا جميعًا!
1649م -دعت كريستينا، ملكة السويد (1633–1654) رينيه ديكارت لتثقيفها حول آرائه الفلسفية، ولا سيما رؤيته للكاثوليكية، فأجابها على النحو التالي: (1) فكرتنا عن الله هي وجود كائن كامل، (2) وجوده أكثر كمالًا من عدم وجوده، (3) لذلك يجب أن يكون اللهُ موجودًا. طبعًا نحن ندعو كلَّ من يحمل همَّ أبناءِ جلدته أن يُنظر فكريًّا للخروج من ذلك الثالوث السياسي المدمر، أو على الأقل ألَّا يكون مُصنعًا للمخدر الذي يضخ في جسدنا المريض وعقولنا المتعفنة وذلك أضعف الإيمان!