التوسعُ الخارجي مقابلَ الصراع الداخلي

د. أحمد سامر العش

“صلح وِستفاليا- Peace of Westphalia” عام 1648، ضمَّ معاهدتين وقَّعتهما القوى الأوروبيةُ المتناحرة، وهو ما كتب نهايةَ سلسلةٍ طويلةٍ من الحروب الدموية. ولقد مثَّلت تلك اللحظةُ البدايةَ الحقيقيةَ للعلاقات الدولية الحديثة، إذ اتفقتِ الدولُ الأوروبية رسميًّا، وللمرة الأولى بفضل هذه التسوية، على احترام سيادة بعضها بعضًا على المناطق التي جرى ترسيمُها، مما أسس لترسيخ النظام العالمي القائم على “صلح وستفاليا”، بوصفه عالما مُقسَّما إلى دول قومية ذات سيادة. وبعد هذه الاتفاقية، بدأ عدد من دول غرب أوروبا تأسيسَ مستعمراتِهم في إفريقيا وآسيا والأمريكتين، هذه التحولات التي أطلق لها الاستعمار الأوروبي العنان هي ما جعلت العالم على ما هو عليه الآن.

بدايةً من القرن الثالثَ عشرَ، وتحديدًا عام 1206، حينما نُصِّب “جنكيز خان” حاكمًا على شعوب سهول أوراسيا كلها، أسس المغولُ تحت حكم جنكيز خان وخلفائه، أكبر إمبراطورية متصلة الأراضي في العالم، حيث امتدت على السهول من المجر شرقًا وحتى الصين غربًا.

لقد طمح جنكيز خان إلى حكم العالم كلِّه، وعلى هذا الأساس أقام علاقاتٍ دبلوماسية مع جيرانه. ولم ينجح أيٌّ من خلفائه في السيطرة على أراضٍ شاسعة مثله، لكنهم اقتدوا به، وأسسوا أربع إمبراطوريات تحكمها دينامياتُ حكم جنكيز خان نفسُها، وهي “سلالة مينغ ” (في الصين اليوم)، و”مغول الهند” (في الهند اليوم)، و”الدولة الصفوية (في إيران)” و”الدولة التيمورية (في أوزبكستان اليوم). يبدو أنَّ الشعوبَ التي تعيش الآن في أراضي الإمبراطورية المغولية سابقًا على دراية تامة بهذا التاريخ، وهذا ما يشكل أهمَّ الركائزِ التي تحكم العلاقات الدولية اليوم، ويتجسد ذلك جليًّا في طموح الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” الذي يتأثر بالفكرة “الأوراسية” كما تُسمَّى، ويطمح إلى تجسيد نظامٍ عالميٍّ مرتكزٍ على معظم الأراضي التي حكمها جنكيز خان يومًا ما. كان اعتناقُ الأمير فلاديمير الأول “الأرثوذكسية الشرقية” عام 988 في عاصمته كييف، الدافعَ الرئيسي وراء رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تأسيس إمبراطورية أوراسية ترتكز على معقل الأرثوذكسية الروسية التي تشكَّلت في السنوات الأخيرة من الألفية الأولى (على أراضي أوكرانيا اليوم).

بعد حروب الردة 632-633 م انطلق المسلمون الفاتحون وقوضوا أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت الفرس بمعركة القادسية 636 م والروم بمعركة اليرموك في العام نفسِه، وعاد الصراع الداخلي بعد توقف التوسع الخارجي في أزمة الخلافة الأشهر زمن معاوية، وبعدها أطلق الأمويون العنان للفتوح مجددًا لتخفيف الاحتقان الداخلي وتثبيت سلطتهم!

إذن الاستقرار الداخلي والتوسع الخارجي هما مرتكزان أساسيان في تطور الأمم، وفي حال غياب التوسع الخارجي يتحول الخُط الإستراتيجي إلى التوسع الداخلي أي الصراع الداخلي على النفوذ؛ وهذا كان الدافع الرئيسي وراء الحربين العالميتين.

على مستوى أصغر نلاحظ الأمر نفسَه وراء أزمة الكويت 1990 وقطر 2017؛ فالأولى كانت لتصدير أزمة العراق بعد انتهاء حرب إيران، والثانية لتصدير أزمة الصراع الداخلي على السلطة في السعودية، وكذلك الأمر وراء دافع النظام الإيراني لتصدير الثورة الخمينية لتثبيت حكمه واختطاف الثورة الإيرانية.

شكلت لبنان واليمن تواليا السيناريو نفسَه بالنسبة لحافظ الأسد وعبد الناصر، فهي لم تكن إلا حبل نجاة لتفريغ الضغط الداخلي؛ وهذا ما دفع هذه الأيام النظامَ الإيراني لاستدعاء النجاحات الخارجية في وجه الفشل الداخلي. كذلك تستند نظرية صناعة العدو لتوحيد الأمة على المبدأ نفسِه، وهذا ما جعل الولاياتِ المتحدةَ مُتسيدةً للعالم الاستعماري الحديث من خلال الحرب الباردة والحرب على الإرهاب تواليا، ولم يكن اقتحام الكابيتول والتوتر الداخلي الأمريكي الحالي إلا انعكاسًا لانتهاء مفعول الاثنين.

تبدو فكرةُ التوسعِ الخارجي مقابل الصراع الداخلي أداةً تشخيصيةً جيدة لفهم الصراعات البشرية على مر التاريخ، لكنَّ السؤالَ المهمَّ: هل سيبقى البشر في تلك الدوامة التي جعلت الملائكة تتعجب ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة-30)؟ غالبًا لن يكون لدى كائن بشري المفتاح لحل هذه المعضلة، لكن إذا وضعنا فلسفةَ إعمار الأرض مقابلَ التوسع الخارجي، وفلسفةَ الإمام (النظام) العادل مقابل الصراع الداخلي، لربما وجدنا مخرجًا لذلك، لكنَّ المشكلةَ أنَّ تلك الفلسفةَ تحاربُها الشهوات البشرية؛ التي ترجح الغزو والربح السريع على الأعمار طويل المدى، وترجح كذلك الاستعلاء على العدالة وهنا يظهر جوهر فلسفة الامتحان الأصعب في حياتنا القصيرة!!!!!!!

إذن لن تُحلَّ معضلةُ البشرية لسبب بسيط؛ وهو وجود قابيل مقابل هابيل، وكما ‏قال حليم العرب الأحنف بن قيس – رحمه الله :”ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: شريفٌ من دنيء، وبرٌّ من فاجر، و حليمٌ من أحمق “.في بلداننا المخُنوقة بحدود جغرافية وصراعات شهوانية صنعناها بأيدينا يبدو في وصف ويل ديورانت Will Durant لمعاهدة وستفاليا مفتاحًا للحل؛ يقول ويل ديورانت في كتابه قصة الحضارة واصفًا الاتفاقية: « عملتْ معاهدة وستفاليا على تسويةِ المطالبِ المتعارضةِ بحكمةٍ قدرَ ما سمحتِ الكراهية والغرورُ والكبرياءُ والقوّةُ والسلطة بين المجتمعينَ».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى