أميركا والورقة الكردية السورية

د. باسل معراوي 

تمتلك المنطقة العربية موقعاً مميزاً من الناحية الجيوسياسية، كقلب للعالم وممر للتبادل التجاري بين الشرق والغرب، إضافة إلى اكتشاف كميات كبرى من النفط في أراضيها بدايات القرن العشرين.

ومنذ حروب الإسكندر المقدوني والاحتلال البيزنطي ثم الحروب الصليبية، كانت المنطقة العربية تشكل هدفاً استراتيجياً للوصول إليه وحرمان الخصوم منه، بحيث أدرك الغربيون (قبل الميلاد وبعده) أنه للسيطرة على العالم لابد من السيطرة على البقعة الممتدة من إيران إلى بلاد الشام والخليج العربي ومصر.

وعندما قطعت الخلافة العثمانية الطرق البرية للتجارة بين الشرق والغرب اكتشف البرتغاليون رأس الرجاء الصالح للتخلص من السد العثماني في الشرق الأوسط.

بدأ التدخل الغربي يزداد وضوحاً في المشرق العربي مع إطلاق تسمية الرجل المريض على الخلافة العثمانية، فبعد ألف عام على ولادتها، بدأ الضعف يدب في أوصالها، وأخذ التدخل الغربي أشكالاً مختلفة.

في بلاد الشام بدأ بإرسال البعثات التبشيرية (كفتح الجامعات) وفرض قوانين على السلطنة العثمانية لإعطاء الكثير من الحقوق للأقليات.

وأخذت الأطماع الغربية في الشمال العربي الأفريقي شكلاً احتلالياً، فبسطت فرنسا سلطتها على مراكش وتونس والجزائر وأخذت إيطاليا ليبيا، وكانت مصر من حصة الإنكليز بعد فشل حملة نابليون عليها، بينما تأخرت السيطرة الأوربية على بلاد الشام إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى حيث تمت هزيمة الدولة العثمانية.

وكان أوضح مثال على التدخل الغربي في المنطقة العربية هو إعطاء وعد بلفور لليهود والعمل على إنشاء كيان يهودي في قلب المنطقة العربية، يشكل حاجزاً بشرياً معادياً بين العرب في قارتي آسيا وأفريقيا، وبنفس الوقت جرت مؤامرة سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا وروسيا لتقسيم بلاد الشام والرافدين وعدم الإيفاء بالوعود المقطوعة للشريف حسين بالاشتراك بالحرب مع الحلفاء ضد الدولة العثمانية لمنحه خلافة عربية تضم ممتلكات الدولة العثمانية في الشام والعراق وتكون عاصمتها مكة في الحجاز.

تقاسم الإنكليز والفرنسيون السيطرة على بلاد الشام والرافدين وكانت تلك الحدود التي رسموها بين الدول وجرى بموجبها تقسيم المدن والعشائر والعائلات بين دولة وأخرى، فمثلاً سهل حوران الذي كان على مدى التاريخ امتداداً واحداً، جرى تقسيمه بين سورية ودولة اصطنعت حديثاً لا تتمتع بأي مقومات البقاء إرضاءً للشريف حسين بن علي وأسموها إمارة شرق الأردن، وكذلك الحال بين سورية والعراق، وسوريا وتركيا، وسوريا ولبنان.

كانت الغاية الفرنسية من إنشاء دولة لبنان الكبير واقتطاعها من سوريا تجسيد سياسي لعشرات السنين من التدخل والحماية للمسيحيين في لبنان.

وفي سورية وعبر جيش المشرق الذي أسسه الاحتلال الفرنسي الذي شرع أبوابه للأقلية العلوية في سورية بحيث كان وصول حافظ أسد للسلطة فيما بعد نتيجة طبيعية لذلك التمهيد الفرنسي.

لم يلحظ الفرنسيون، والإنكليز خاصة، ضرورة إنشاء دولة كردية تضم أكراد المنطقة ورضخوا لمشيئة كمال أتاتورك بإلغاء معاهدة سيفر وتوقيع معاهدة لوزان وبذلك بقي الأكراد موزعين في أربع دول ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وقد يكون ظهور الاتحاد السوفييتي حينها سبباً لدعم أتاتورك ذو التوجه العلماني الغربي خوفاً من استغلال الشيوعيين السوفييت للورقة الكردية للوصول أو التغلغل في الشرق الأوسط والمياه الدافئة.

عندما بدأ الضعف يدب في أوصال الاتحاد السوفييتي المريض، وباتت هزيمته بالحرب الباردة وشيكة، توجت الولايات المتحدة نفسها كقائد وحيد للعالم، وبسبب ظهور نظام الملالي الطائفي في إيران وتغول دولة الاحتلال الإسرائيلي بالمنطقة والدعم الأمريكي اللامحدود لها، وفشل كل المشاريع لمقاومتها، ترسخت مشاعر العداء للغرب عموماً وللولايات المتحدة خصوصاً، بسبب دعم كيان الاحتلال الإسرائيلي أو لبقايا أفكار تم زرعها في الأجيال العربية التي حكمها ضباط موالون للسوفييت، وتشبع تلك الشعوب بشعارات مناهضة الإمبريالية الأمريكية، إضافة للعداء التقليدي بين الحركات الإسلامية العربية التي لها امتداد شعبي واسع وخوفاً من احتمال تقارب ما بين حكومات سنية إسلامية عربية مع الخلافة الشيعية في إيران (وهو أمر موضوعي نظراً لاختلاف العقائد والفقه وتشابه النظرة الاستراتيجية)، ونظرا لأن إسرائيل قد لا تكون كافية كحاملة طائرات أمريكية لا تغرق، كانت الورقة الكردية هي الخيار الاستراتيجي الغربي لتعزيز نفوذه في تلك المنطقة الملتهبة والتائهة في دروب صراعات تاريخية لا تنتهي.

يبدو أن الورقة الكردية في المنطقة كانت هي الخيار الأمريكي للتحكم بلعبة الحرب والسلام في المنطقة، حيث إن إذكاء الروح القومية بين شعوب المنطقة (الفرس، العرب، الترك، الكرد) سيساهم في استثمار أمثل لتلك الورقة وفق الاستراتيجية الأمريكية.

بعد حرب تحرير الكويت كانت الاستراتيجية الأمريكية، حماية الكرد المنتفضين ضد حكم الرئيس العراقي وبالتالي لم يكن مسموحاً أو متاحاً له (لتثبيت سلطته المهزوزة) إلا البطش الشديد بالانتفاضة الشيعية في الوسط والجنوب، ولم تجرؤ قواته على التقدم متراً واحداً داخل الإقليم الكردي، وتم التدشين العملي للتحالف الكردي/الأمريكي على أساس حليف محلي للنظام الدولي.

طبعاً لم تكن دول المنطقة الأربع، التي تضم مواطنين أكراد سعيدة بهذا التوجه، بل معادية له لأسباب تمس أمنها القومي والاجتماعي، وكانت كل وسائط القوة الأمريكية تصب في ذلك الجيب الكردي الذي لا يجرؤ أحد على المساس به، وأعطي الإقليم كل الرعاية الغربية مع وجود حزبين أو عشيرتين متنافستين في إبيل والسليمانية ودارت رحى حرب بينهما استمرت أربع سنوات من عام 1994 إلى 1998، وتم وقف إطلاق النار بوساطة أمريكية ورعاية اتفاق خطوط عريضة بينهما لازال سارياً رغم الخلافات المرحلية التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى.

في سوريا ومنذ بداية الثورة السورية آثرت الولايات المتحدة القيادة من الخلف وكان مسؤولوها ومن مختلف المستويات بدءاً من السفير فورد وانتهاءً بالرئيس باراك أوباما (صاحب الخطوط الحمر الكيماوية) يرددون على العلن وفي لقاءاتهم مع قيادة المعارضة السورية بأن الحالة تختلف بين ليبيا وسوريا، وبأن قراراً استراتيجياً أمريكياً بعدم التدخل عسكرياً قد تم اتخاذه خاصة أن الرئيس أوباما نفسه قد اتخذ قرار إنهاء التدخل العسكري الأمريكي بالعراق وأبقى قواعد ومستشارين فيها بعد إبرام اتفاقية إطار إستراتيجي مع الحكومة العراقية.

وقد تأكد عملياً عدم التدخل العسكري الأمريكي في سورية بعد جريمة إطلاق الأسلحة الكيميائية على الغوطة الشرقية في آب 2013، حيث تخطى الرئيس خطوطه الحمر كلها وتنازل عن هيبة الولايات المتحدة عالمياً، إضافة للعديد من المجازر الوحشية التي ارتكبها النظام وحلفائه.

فجأة وبدون سابق إنذار وبعد أن اجتاح تنظيم داعش أجزاء واسعة من شمال العراق وسورية وتحاشى بطريقه التجمعات والقرى والبلدات الكردية في محافظة الحسكة، لم يكمل التنظيم طريقه المتوقع إلى حلب وكان على تخومها بل انعطف إلى عين العرب (كوباني) بشكل مفاجئ، وكانت على وشك السقوط عندها رسم الأمريكيون خطاً للنار داخلها مانعين من إكمال عملية اقتحامها وأنشؤوا على عجل تحالفاً لمكافحة الإرهاب يضم أكثر من 60 دولة بقيادة الولايات المتحدة وجمعوا بقايا ميليشيا نواتها الصلبة قوات حماية الشعب الكردية كحليف محلي لتحالف دولي وبدأت قصة تدخل أمريكية لم تنته حتى الآن، عنوانها محاربة الإرهاب وجوهرها الحفاظ على الوجود الكردي في سوريا، وتقويته وجعله ورقة هامة يمسك بها تكون محوراً لسياساته في المنطقة بالحرب والسلام أو إشاعة عدم الاستقرار.

وعندما هددت الدولة التركية الولايات المتحدة بالتخلي عن ورقة قسد أو المجازفة باقتراب تركي لدولة مهمة بالناتو من الغريم الأكبر روسيا والغريم الأصغر إيران. لم تلق الولايات المتحدة بالاً لذلك التهديد فانضم الأتراك لتحالف أستانة المناهض لكل المشاريع الأمريكية في سوريا (إن لم يكن في المنطقة كلها) ولم ينجح الرئيس التركي بلعبة حافة الهاوية عندما هدد بشراء منظومات صاروخية S400 تعتبر فخر الصناعات الروسية الحربية في سابقة لن تتكرر لدولة في حلف الناتو، وتم فرض عقوبات على تركيا من جانب الولايات المتحدة وإخراجها من برنامج صناعة طائرة القرنF35 .

ولم تتخل الولايات المتحدة عن الورقة الكردية على الرغم من كل الجفاء الذي حدث مع تركيا.

وفي عام 2019 عندما استغلت القيادة التركية السياسة المضطربة للبيت الأبيض الذي كان سيده دونالد ترامب يرغب بترك سورية كلها، قام الجيش الوطني السوري والجيش التركي بشن عملية نبع السلام كموطئ قدم تركي شرق الفرات، لم يجد الأمريكان بداً من التعاون مع الروس لإدخالهم إلى شرق الفرات (أيضاً دون وجود أي مبرر سوى كبح الجموح التركي)، وبات الروس شريكاً في الحرب والسلام في المنطقة وأنشؤوا العديد من المواقع أهمها الوجود الروسي العسكري في مطار القامشلي.

لذلك ليس في وارد الاستراتيجية الأمريكية (مهما قيل عكس ذلك إعلامياً) التخلي عن استثمار جهود ما يقارب عشر سنوات من الدعم الأمريكي المطلق للقوات الكردية، التي أطلق عليها الأمريكان أنفسهم تسمية ظنوا أنها تخف حقيقتها وهي قوات سورية الديمقراطية.

بغض النظر عن أهمية الورقة الكردية بالنسبة للولايات المتحدة إلا أنها متمسكة بها وهذا ما يمكن قراءته من بدايات التدخل الأمريكي في سورية.

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا والقطيعة النهائية بين الولايات المتحدة والغرب عموماً وروسيا البوتينية، بات الصراع بينهما على تركيا واستمالتها أمراً ظاهراً للعيان ولا يحتاج لعناء كبير، وتدرك القيادة التركية ذلك وتحاول استثماره لصالحها، ويبدو أن القيادة التركية عندما لمست الفيتو الأمريكي الصريح ضد أي عملية عسكرية تركية في الشمال السوري، وجدت في قمة طهران لثلاثي أستانة خياراً مرحلياً علّه يضغط على الإدارة الأمريكية بتغيير أو تليين مواقفها تجاه سياساتها المتعلقة بالورقة الكردية السورية.

يبدو أن خطة الولايات المتحدة هي تطبيع بين أنقرة وقسد (الخالية من الـ PKK التركي)، مع استمرار القطيعة مع نظام الأسد الدمية بيد العدو الروسي والإيراني وممكن أن نقرأ هنا السماح الأمريكي للطيران التركي بقصف أهداف لقسد بعمق وصل إلى 180 كم عن الحدود التركية – السورية في مناطق تتبع لمحافظة دير الزور، وقصف أهداف نفطية وعسكرية في محافظة الحسكة أحدها يبعد 130 متراً فقط عن إحدى القواعد الأمريكية كامتصاص لغضب أنقرة من تفجير اسطنبول واكتفائها بعملية جوية بدلاً عن عملية برية بما يخدم الأمن القومي التركي مرحلياً.

بينما تسعى روسيا وإيران بعد قمة طهران الأخيرة وظهور التصريحات التركية بعدم ممانعة (أو رغبة) تركية بالتطبيع مع دمشق، وذلك استناداً لخطة روسية إيرانية تقضي بإخراج الولايات المتحدة من سورية عسكرياً تكون بدايتها القضاء على القوات الكردية الموالية لواشنطن وليس حزب العمال الكردستاني التركي الموالي لطهران وموسكو والنظام.

إن الخطة المقترحة قد تكون عبارة عن تعاون رئيسي بين أنقرة ونظام الأسد ضد قسد مدعوماً من روسيا وإيران، يتيح لقسد (أو أجزاء مهمة منها) الارتماء بحضن النظام للحماية من الجيش التركي.

إن اضمحلال قسد بأي طريقة وإيقاع بعض الخسائر بالوجود البشري الرمزي الأمريكي سواء عبر خلايا لتنظيم داعش أو الخلايا التي يعمل على زرعها الإيرانيون في مناطق سيطرة قسد واستمرار الضغط على القواعد أو النقاط الأمريكية بالصواريخ والطيران المسير الإيراني، قد يؤدي (بنظر الروس والايرانيون) إلى الدفع بالولايات المتحدة لمراجعة أسباب وجودها العسكري في سورية وبالتالي خلو الساحة لهم.

ومن المتوقع ألا يدعم الجانب التركي أي خطط مناهضة للوجود العسكري الأمريكي في سورية، وقد عبر وزير الخارجية التركي عن ذلك باستعداد أنقرة لتقديم كل أنواع الدعم السياسي فقط لحرب النظام السوري على قسد، وذلك لحسابات تركية خالصة، إما لوجود تركيا والولايات المتحدة بحلف عسكري يجمعهما، أو لعدم قناعة تركيا بجدوى الخطة الروسية – الإيرانية من أساسها أو لكلا الأمرين معاً.

ويرى كثيرون أن السياسة الأمريكية لها حظوظ وافرة بالنجاح (بعد تنقية قسد من الشوائب التي لا ترضى عنها أنقرة) وعدم تطبيع أنقرة مع دمشق، انتظار لحل سياسي سوري قادم لن يطول كثيراً بناءً على هزيمة روسية شبه محققة في أوكرانيا وضعف إيراني غير مسبوق على وقع تداعيات الاحتجاجات في الداخل والعقوبات الهائلة التي ستدخل بها إيران الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة نتيجة رفضها التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وانهيار كامل لمفاوضاتها مع الغرب بشأن الاتفاق النووي.

وقد تكون الورقة الكردية هي المدخل لإسقاط نظام الملالي في طهران، الذي أصبح عبئاً على الجميع، ليس لأن مهسا أميني فتاة كردية فقط، بل لأن إقليم كردستان إيران رأس الحربة في التظاهرات السلمية الجارية الآن.

المصدر: نينار برس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى