سورية والتغيير

د- عبد الناصر سكرية

يعاني الشعب السوري القهر والعذاب وضيق سبل العيش والحياة؛ أيا كانت السلطة التي تحكمه في أنحاء سورية المتفرقة.. احتلالات متعددة. أمن مستباح.. موارد منهوبة.. مهجرون.. معتقلون. موت يومي لا يتوقف.. أجراء يسرقون أحلام الناس ويعبثون بها. مشردون في أصقاع الأرض. لا مبالاة عربية وتواطؤ دولي مذهل مرعب.. حتى أمكن إجمال وضع السوريين بالعبارة التالية:

# وطن محتل مستنزف وشعب منسي مقهور # قهر الاحتلال وقهر الميليشيات ..قهر الأجهزة وقهر الحياة في كل أجزاء الوطن ..مقومات الوطن مستباحة. يجري تفكيكها وبعثرتها تدريجيا..

من أول الهوية التاريخية مرورا بمؤسسات الدولة العامة. صارت عروبتها في مهب الريح. فحيث توجد قوة احتلال أجنبي لا فعالية للعروبة. بل العكس فالعروبة تكون هدفا يصوب عليه الاحتلال لأنها تؤرقه. ولأنها تشكل نقيضه فتحرض على رفض الاحتلال.. يصوب الاحتلال على العروبة مستهدفا تحطيمها لأنها تلم الجميع في إطار شعب ووطن. وهو يريد تفريقهم لأنه يريد تمزيق الوطن ليديم احتلاله أو لتستديم وصايته عليه فيما لو اضطر للمغادرة طوعا أو خوفا أو كرها.. وحتى تبقى الموارد تحت هيمنته ينهبها ويتصرف بها ثم يستخدم شيئا منها لتدمير بلادها بتمويل وتفعيل كل عدوان عليها وكل معتدي.. ثم تفكيك مؤسسات الدولة العامة بأبسط وسيلة وهي تعطيل فعاليتها ودورها في خدمة المواطن وحماية الوطن..

في سياق متشابه متناسق متكامل؛ يجري تفكيك الإنسان عبر تفكيك ثم بعثرة مكوناته المتنوعة: تفكيك مادي بالاعتقال بالقتل بالتعذيب بالتهجير.. تفكيك يقطع اتصال المواطن بالوطن. يقطع صلته بأرضه فيمنع تفاعله اليومي معها فلا يعود قادرا على التغيير متفاعلا مع وقائع حركته اليومية الجدلية المتفاعلة مع الحياة..

وتفكيك نفسي معنوي بالقهر والظلم والإحباط والتيئيس ..تفكيك بالغدر والمثل السيء تحت لافتات التغيير وأعلام الثورة وتضخيمًا للغتها المبالغة في التشدد أو المبالغة في النفاق والتلفيق والهروب ..تفكيك عبر تشكيل الانتهازية وتجسيدها في رموز متحركة تملك من إمكانيات الوجاهة والتسويق ما يجعلها مادة لحديث الإعلام اليومي.. فيصبح الإنسان المطالب بالتغيير ليس فقط هدفا لقوة الاحتلال وقوة الظلم والقهر بل يجعله التفكيك النفسي غير قادر على التماسك أمام أشكال الغدر والخيانة والنفاق ليقع تحت هيمنة الإحباط وردات الفعل السلبية التي تشل مقدرته على الحركة فيما لو لم تدمر رغبته النفسية في الثورة وطلب التغيير..إنه تفكيك ناعم قريب، أساس تشكيله في الأقربين مصادري شعارات التغيير تزويرا ، ليعطلنها ويقعدونها عن السير والحركة حتى السقوط فيتم تأبيد الواقع وديمومة صورته البغيضة المذلة المرفوضة دونما إمكانية الانتفاض عليها أو محاولة تغييرها..تفكيك يقطع اتصال الإنسان بالحلم..ثم يقطع تواصل الثورة بأحلام الإنسان إلى أن تذبل وتموت في فكر الإنسان الحر ونزوعه اللا واعي إليها..وهكذا في سلسلة مترابطة المراحل متعددة الأشكال تفضي الواحدة إلى الأخرى ويفضي الكل إلى اللا شيء سوى ديمومة الوقع :الاحتلال فالنهب فالظلم والقهر والعدوان .. حتى يكون الإنسان نفسه جاهزا للسقوط والاستسلام..

ويحدث آنئذ التغيير لكنه ذلك الذي يعاكس إرادة الإنسان ويناقض أحلامه. تغيير إلى الخلف والوراء. إنه التغيير الذي يحيل حلم الثورة إلى كابوس الاستسلام والتخبط والتشتت..

نعم إن ما يتعرض له شعب سورية يريد إحداث ذلك التغيير السلبي المرفوض الذي يسقط حلم الثورة فالتغيير الإيجابي المأمول.

تفكيك العام بالوطن والخاص بالإنسان حتى لا يعود يقوى أحد حتى على مجرد الحلم..والحلم هو الأمل والأمل هو الثورة أو مقدمتها التي لا تكف عن العزف على الحنين إليها فالوصول إلى التغيير الإيجابي المأمول..

ليس هذا الوصف طوباويا. لعله يدفع الإنسان الحر إلى التفكير…تفكير عميق في التقييم والمراجعة والمساءلة قبل اكتمال حلقات التفكيك…لا تزال بقية من أرض ولا يزال بقية من إنسان وحلم ثورة وأمل بثورة فإنقاذ فخلاص فتغيير إيجابي إلى الأمام.. وقبل أن يقعدنا التغيير القادم من الخلف ، من الثورة الضد أو من مضادات الثورة ؛ الزاحف بنا جميعا إلى الخلف وإلى مزيد من الخلف والخلاف والتخلف ؛ مطلوب وقفة تفزعنا لنفزع جميعا بكل رهبة وجدية إليها ؛ نتدارس مستوجباتها ومتطلباتها بعد أن ندرك حقا جميع تداعياتها..

المشهد السوري العام لا يشي بكثير من الأمل ولو وعودا.. الثورة لم تعد شعبا منتفضا او شبابا ثائرا نظيفا يدافع عن وجوده وأرضه ووجوده في أرضه..استشهد آلاف الشباب الأحرار الذين كانوا عصمتنا في أمر ثورتنا..اغتيلت مئات القيادات الحرة الميدانية ممن كانوا دليل حركة وعمل لاتجاه الثورة وسلامة توجهها..اصطنعت عشرات القوى المسلحة المرتهنة المشبوهة التي سلمت رأس الثورة واستلبت الأرض لتسلمها لمن يحتلها ليدمرها ويهجر اهلها وينهب خيراتها..

ثم اصطنعت معارضات مزيفة متسلقة او جعلوها تتسلق جدار الثورة لتسقطه على ذويه وأهله فلا يعودون للنوم عند فيئه وتحت ظلاله..أما الشرفاء فتبعثروا وتفرقوا شيعا بعد أن أصبحوا أيتاما..يتموهم فراحوا يمعنون في طلب اليتم واستئناس مفاعيله..صاروا صوتا معنويا يصرخ متألما يزيده عجزه ألما وتألما..صار بعضهم صدى لألم غائر قديم..وكثير صار منتظرا لا شيء انتظاريا فيما يتابع الأحداث أو يراقبها من بعيد..كثيرون تاهوا في تشخيصات متخبطة مبعثرة فتبعثرت أولوياتهم وتاهوا عن سبيل الثورة وإن زعموه لهم. متفردين أو متشاركين..

وآخرون غادرهم الحلم فغادروا الثورة وما يتصل بها إلى خلاص فردي بما بقي أو خف حمله من ألم ووجع ومعاناة.. يبقى الثائرون الإنتظاريون هم الأغلب والأكثر وكثير منهم ناشطون مع فاعلية غير مؤثرة.. البعثرة تشتت قوة جميع المخلصين الشرفاء.. هنا الوقفة مطلوبة وملحة. عند هؤلاء يجب البحث واليهم ينبغي الحديث.. الناشطون المخلصون الشرفاء الآمنون من عذاب الضمير، المؤمنون بعد بالثورة الحلم والتغيير. نوجه إليكم نداء محبة وغيرة وضمير..

قبل أن يتم فعل التفكيك ويصبح عاما شاملا؛ مطلوب منكم التحرك جماعة لا فرادى ولا مجموعات..

عشرات التشكيلات تشكلت باختصاصات متنوعة وتواجد جغرافي متوزع. كل يعمل في نطاقه. جميلة ولازمة ومفيدة. لكنها غير كافية …فلماذا لا تنصهر في إطار منظم واحد. ليس حزبا ولا تنظيما عقائديا. بل مؤسسة وطنية جامعة تضم الطاقات الإيجابية إلى بعضها. وما أكثرها فيكم وبينكم. مؤسسة يوحد بينها الولاء للوطن والعمل لإنقاذه. إنقاذ الوطن هدف عظيم يتفوق على كل خلاف او اختلاف من أي نوع وأي مستوى..

في إنقاذ الوطن إنقاذ للإنسان أيضا. لكل منكم عذابه الذي يريده ان ينتهي. بيته المهجور يريد عودة حرة إليه. بلدة وسكن وذكريات وأحلام ومستقبل وتقاعد وشيخوخة؛ جميعا آمال ترن في الأذن وتحرك القلب والمشاعر. أهل فارقهم يتمنى لو يعود فيلقاهم.. أخ أو حبيب أو صديق أو قريب يتمنى تحريره ليخلصه من عذاب الزنازين والمعتقلات المدمرة.. أولاد وأحفاد يريد لهم النشأة في أرضهم ووطنهم بحرية وكرامة ..كل واحد منكم لديه أهداف شخصية عدا مشاعره الوطنية والإنسانية ؛ تحبب إليه تحرير الوطن والعودة إليه حرا متحررا من العبودية..فلا مبرر لكم إن لم تتوافقوا حالا دون إبطاء تحت هدف واحد عظيم العودة إلى وطن حر. هدف لو تعلمون عظيم وبسيط لو تكاتفتم..

فليبق كل منكم في مكانه وفي قناعاته التفصيلية وسلوكياته الشخصية؛ لكنه وجب عليكم التوافق في إطار واحد مؤسساتي يقويكم ويحميكم أيضا. فلا يظنن أحد فيكم أو مجموعة أو طرف بمفرده يستطيع حماية ذاته وكيانه فكيف به يستطيع إنقاذ شعب وتحرير وطن؟؟

أسقطوا من حسابكم السلبيين والمغادرين ساحة الحلم وأولئك الذين راحوا يخترعون أولويات لاهتمام يبررون بها هروبهم وتخاذلهم ..أليس فيكم خمسون حرا يتوافقون على تأسيس قوة صلبة تشكل نواة استقطاب للطاقات المتحركة الإيجابية ؟؟ يكفي خمسون مدركا واعيا أبعاد ما يجري وآفاق التغيير الممكن ..خمسون يتوافقون على برنامج عمل مرحلي يصوغ الإمكانيات ويصوغ الأهداف المرحلية وفقا للإمكانيات ..خمسة بنود تناديكم وتفرض ذاتها على كل حر شريف غير ذي ارتهان لجهة هنا أو جهة هناك..

١ – الأرض المحتلة المنهوبة..

٢ – الشعب المهجر المنكوب..

٣ – المعتقلون المعذبون بالنار وهم أحياء..

٤ – الميليشيات المشبوهة التي تخرب كل ما صنعه الثائرون..

٥ – ما العمل؟ من أين نبدأ؟ ماذا نملك ومن معنا؟؟

أما إذا استمر مسار الأمور كما هو ؛ يخشى أن يحصل تغيير قريب لكنه يثبت كل أعراض التفكيك المادي والنفسي..أن تتقسم الأرض رسميا وقانونيا فتنشأ كانتونات انفصالية معادية وعدائية ومتناحرة..أن يزاح رموز في نظام السفك والإجرام ليحولوهم فيما بعد إلى ” رموز وطنية ” يتحسر البعض عليها ..أن يشرعن الاحتلال ومعه سلب الموارد والإرادات..أن تقوم تسويات بإشراف المحتلين وحمايتهم تشرعن لدستور جديد يقوم على المحاصصات الفاسدة المفسدة التي تستنزف البلاد والشعب أكثر فأكثر ..أن يصبح التغيير السكاني نمطا بل وقائع يصعب تغييرها قريبا..أن يتم استلاب العقول والنفوس وإغراقها في دوامات الفعل اللا وطني وردات الفعل السلبية المتناحرة..وما تهجين الإنسان في الداخل المحتل بالهم المعيشي الذي لا أفق له ولا قدرة على استيعابه وتحمله ؛ إلا تحضير لاستكمال عمليات التفكك والتفكيك حتى لا يقوى أحد بعد حتى على الصراخ.. توافقوا فتوحدوا قبل فوات الأوان ووقوع الندم الذي لا ندم بعده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى