بينما أسير عبر سهوب التندرا الإسفنجية، بين شجيرات البونساي التي تضج بألوان الخريف، صادفت نهرًا عريضًا جدًا بحيث يتعذر عبوره. وعندما حدّقت في الوادي الذي يتدفق منه، رأيت أن هذه العقبة التي تعترض طريقي ليست سوى خيط واحد فقط من نظام واسع منضفر، ينتشر بهدوء في سهل فيضاني في حديقة دينالي الوطنية في ألاسكا. شاهدت تفرعات نهر ماكينلي السائلة وهي تفترق، ثم تعاود الاشتباك معًا. وعلى الرغم من أنني في ذلك الوقت كنت أعرف القليل عن الهيدرولوجيا، علم المياه، فقد فهمت، على مستوى غريزي ما، أن هذا كان نهرًا حرًا، بينما كان كل نهر آخر أعرفه مُخضَعًا بوضوح.
ما الذي يعنيه أن يكون النهر حرًا؟ اليوم، معظم المياه ليست في حالتها الطبيعية، وخاصة في البلدان الصناعية. وهذا واضح لكنني لم أكن قد فكرت فيه من قبل. لقد ملأ البشر، أو استنزفوا 87 في المائة من الأراضي الرطبة في العالم. قمنا ببناء السدود على، أو تحويل مسارات، ثلثي أكبر الأنهار في العالم. وأصبح ما يظن الكثيرون منا أنه “نهر” مجرد قناة مقيدة معدَّلة المسار، لم تعد تتجول عبر سهولها الفيضية الطبيعية، بينما تُرسِّب الطمي الغني بالمغذيات والمكوِّن للأرض أثناء سيرها. وأصبحت الجداول والأراضي الرطبة التي جذبتنا لأول مرة لنستقر ونبني المدن مغلفة منذ فترة طويلة بالأنابيب، أو مليئة بالقمامة والأوساخ.
في الحقيقة، تضاعفت مساحات الجداول والأراضي الرطبة التي تغطيها أرصفة المدن وطرقها المعبدة منذ العام 1992. وفي المناطق الريفية أيضًا، قمنا بإزالة انثناءات الجداول، وتجفيف الأراضي الرطبة والبحيرات وملئها، وسد السهول التي تسيل فيها المياه لإنشاء المزيد من الأراضي الزراعية أو العقارات للتطورات الجديدة. ولا تؤثر محاولات التحكم هذه على أماكن تدفق المياه فحسب، وإنما تزيد بشكل كبير من السرعة التي تتحرك بها. الآن، يتم تسريع تدفق المياه عبر مدننا، ومنعها من الغوص تحت الأرض حيث يمكنها إعادة ملء طبقات المياه الجوفية والدوران عبر النظم الإيكولوجية المحلية.
إن حجم جهودنا للسيطرة على المياه هائل. لكن السيطرة عليها تبقى فكرة وهمية. الماء يفعل ما تريد، كما نرى في كثير من الأحيان وعلى نحو متزايد، حيث يكافح الناس في جميع أنحاء العالم مع الفيضانات الشديدة وموجات الجفاف.
في صيف العام 2022، تحول ثلث باكستان إلى بحيرة عملاقة مضطربة، ومشى الناس على أرضيات الأحواض الجافة لنهري جيالينغ الصيني والراين الألماني. وفي الوقت نفسه تقريبًا، كانت أجزاء من شرق أستراليا محاطة بالمياه المرتفعة التي حولت المدن إلى بحيرات عكرة -فيضانات استمرت طوال العام. وكانت الخزانات العملاقة التي تغذي جنوب غرب الولايات المتحدة فارغة تقريبًا، كاشفة في القيعان عن حطام طائرات وبقايا هياكل عظمية عمرها عقود.
كانت الاستجابة لمثل هذه الكوارث حتمًا دعوة إلى بناء مصارف أكبر، وقنوات مائية أطول، وسدود أعلى -وهي آليات تحكُّم أكثر إحكامًا. ولكن في الواقع، ليست أزمة المناخ فقط هي التي تسبب هذه الظواهر المائية المتطرفة. إن خياراتنا الإنمائية -الزحف العمراني، والزراعة الصناعية، والطريقة التي نحاول بها السيطرة على المياه باستخدام الهندسة المفرطة- تتداخل كلها في دورة الماء، الأمر الذي من شأنه أن يجعل هذه المشاكل أسوأ إلى حد كبير. في حطام الكوارث في الولايات المتحدة، مثل الإعصار “ساندي” في العام 2012 أو “هارفي” في العام 2017، نرى أن المنازل التي بنيت فوق الأراضي الرطبة كانت الأولى التي غمرتها الفيضانات. ويتم تذكيرنا بأن المياه لها قوة، وأن محاولاتنا للسيطرة تجعلنا في الواقع أكثر عرضة للخطر.
تعطي العديد من المجتمعات الصناعية الأولوية للحاجة البشرية. وبفعلها ذلك، تصور المياه كسلعة أو تهديد، مما يؤدي إلى حل المشكلات بعقلية أحادية. لكن عقلية “نحن أولاً” هذه لا تقدم أي خدمة للبشر. ويتجاهل نهجنا الاستبدادي تجاه المياه الطرق التي تتفاعل بها الأنظمة الهيدرولوجية مع الصخور والتربة والنباتات والميكروبات والحيوانات -بما في ذلك نحن. وسوف يسبب إقلاق هذه الأنظمة عواقب غير مقصودة لا تعد ولا تحصى.
منذ حوالي عقد من الزمان، بدأت أفكر في هذه الأنظمة والعواقب. لو فهم المزيد عن علاقتنا بالمياه، تحدثت مع علماء الهيدروجيولوجيا وعلماء البيئة ومهندسي المناظر الطبيعية ومخططي المدن والمهندسين البيئيين وغيرهم من الخبراء. وقد وجدت أن “محققي المياه” هؤلاء كانوا جميعًا يحققون في سؤال واحد، يطرح من موضع الاحترام وليس الغطرسة: ماذا يريد الماء؟
على الرغم من أن السؤال قد يبدو متطرفًا، إلا أنه متجذر في القبول بالواقع: عاجلاً أم آجلاً، يفوز الماء دائمًا. وليس هذا الاعتراف ضعفًا وإنما هو أساس للقوة، لأنه يجعل المحققين يفتحون أنفسهم على طرق جديدة للتفكير. لقد علموني أن أنمي الفضول حول الماء، وأن أزرع البذور لنوع جديد من العلاقة معه.
وإذن، ما الذي يريده الماء حقًا؟ لقد نسي معظم البشر المعاصرين أن الطبيعة الحقيقية للمياه العذبة هي التثني مع إيقاعات الأرض، والامتداد والتراجع في رقصة أبدية على الأرض. من الصعب الشعور بهذه الإيقاعات عندما يتم دفن الأنهار والجداول وتعجيل سرعتها عبر الأنابيب الخرسانية أو القنوات. في الواقع، يميل الماء إلى التواني إلى درجة من شأنها أن تصدم معظمنا لأن بنيتنا التحتية التقليدية محت الكثير من أطوارها البطيئة: السهول الفيضية، والأراضي الرطبة، والمروج الجبلية والغابات.
ولكن، عندما يتباطأ الماء على الأرض، يحدث السحر: دورات الماء تحت الأرض، التي تدعم الموائل والغذاء للعديد من أشكال الحياة، بما في ذلك حياتنا نحن. في العديد من الأماكن حول العالم، تعد المياه الجوفية إمدادات للطوارئ عندما تنخفض المياه السطحية. لكنّ ما هو تحت السطح وما هو فوقه هما في الواقع مرتبطان بشكل معقد بالجاذبية والضغط الهيدروليكي. ويمكن أن تساعد طبقة المياه الجوفية الكاملة على تغذية تدفق نهر، بدفع المياه إلى الأعلى خلال مجراه في موسم الجفاف. والعكس صحيح: عندما تنخفض مستويات المياه الجوفية، يمكن أن تترشح مياه النهر لتجديدها، تاركة كمية أقل من المياه على السطح. ويقول محققو المياه إن المفتاح لزيادة القدرة على الصمود في وجه كل من الفيضانات والجفاف هو إيجاد طرق للسماح للماء بأن يكون ماءً؛ باستعادة الحيز لها لكي تتفاعل مع الأرض.
في السنوات القليلة الماضية، زرت مشاريع المياه المبتكرة التي يقودها محققو المياه في الولايات المتحدة وبيرو وإنجلترا وكينيا والعراق والهند والصين. وعلى الرغم من أن العديد من المشاريع الهندسية القياسية في جميع أنحاء العالم تستمر في تسريع المياه، فإن المشاريع التي رأيتها تهدف جميعها إلى إبطاء سرعة المياه على الأرض في بعض من الأنماط الطبيعية تقريبًا. لهذا السبب، أصبحت أفكر في هذا الاتجاه على أنه حركة “المياه البطيئة”. ومثل حركة “الطعام البطيء” التي تأسست في إيطاليا في أواخر القرن العشرين في معارضة اتجاه الوجبات السريعة وجميع أمراضها، تسعى المياه البطيئة إلى علاج الطرق التي يتسبب بها تغيير مسارات وتسريع المياه خارج الأرض بالمشاكل.
تحاكي المياه البطيئة الأنظمة الطبيعية أو تتعاون معها؛ حيث تقوم باستعادة حيز المياه لإبطاء سرعتها على الأرض في الأراضي الرطبة والسهول الفيضية والمروج الجبلية والغابات ومستنقعات المد وأشجار المانغروف. والمياه البطيئة تكون موزعة، وليست متمركزة: فكروا في المناطق الرطبة المنتشرة في جميع أنحاء مستجمعات المياه البرية في مقابل سد كبير أو خزان. كما أنها عادلة اجتماعيًا: المياه البطيئة لا تأخذ المياه من بعض الناس لتعطيها للآخرين، أو تحمي بعض المجتمعات بينما تدفع الفيضانات نحو أخرى. تمنح المياه البطيئة المجتمعات المحلية القدرة على استعادة الصمود في بيئتها الطبيعية وإحياء ثقافاتها المحلية. ويدعم اتباع نهج موجه بحسب الأنظمة المائية في الوقت نفسه توافر المياه المحلية، والتحكم في الفيضانات، وتخزين الكربون الطبيعي، وأشكال الحياة الأخرى غير الإنسان.
التفكير في ما يريده الماء قد يبدو غامضًا بعض الشيء، بل وحتى راديكاليًا. لكنه، في الواقع، مسار عملي ومثبت لخلق عالم أفضل. وبينما يلعب صناع القرار والعلماء والمهندسون دورًا كبيرًا في تشكيل العلاقة الحاسمة بين الإنسان والماء، يمكننا جميعًا المساعدة على تغيير طبيعة هذه الرابطة.
تشكلت علاقتي الخاصة مع الماء خلال فترة الجفاف الشديد في العامين 1976-1977 في كاليفورنيا، عندما علمتنا جمعيات المدارس الابتدائية الحفاظ على المياه. وقد أصبحت رسالة الندرة هذه، التي تفيد بأن الماء ثمين، متأصلة بعمق في عقلي. كما انغمستُ أيضًا في جانب الماء الأكثر برية وجموحًا. في رحلات التخييم العائلية، أخذت، كنقطة فخر، سباحتي في أي مسطح مائي صادفناه، من القواطع الكبيرة قبالة سانتا كروز إلى بحيرة في جبال الألب على ارتفاع 8.000 قدم. ولكن، مثلما يحدث مع المشاهد الطبيعية المائية في كل مكان، تتغير أماكني الحبيبة أيضًا. البحيرات والأنهار تتضاءل، أو تفيض. المحيط الهادئ آخذ في الاحترار، مغذيًا أنهارًا جوية أكبر تلقي بالمزيد من الأمطار على الأرض في وقت واحد.
تؤثر التداعيات البشرية لهذه التغييرات علينا، اقتصاديًا وجسديًا ونفسيًا. ويتسبب انعدام الأمن حول سلوك المياه وتوافرها في زعزعة الاستقرار. ويبدو أن الصدمة الناجمة عن الفيضانات وندرة المياه موجودة في كل مكان حولنا اليوم. إن المشاهد الطبيعية التي نعيش فيها مطبوعة على نفسياتنا، مشحونة بالمعنى الشخصي والثقافي. ولذلك، عندما يضر بنا الجفاف والفيضانات، أو تجبرنا على الانتقال، فإننا نعاني من الخسارة: فقدان الأملاك والممتلكات؛ فقدان المنزل والمجتمع؛ فقدان الأماكن الطبيعية المحبوبة وأنواعها المميزة، والطقس، والأصوات، والروائح؛ وفقدان نوعية الحياة نفسها. وهذه الكآبة هي شعور يطارد الكثيرين منا اليوم. لكن المزيد من الشيء نفسه لا ينبغي أن يكون مستقبلنا.
ليس الدافع للسيطرة على المياه بطرق أسهمت في العديد من مشاكلنا الحالية شيئًا بشريًا بالفطرة. بدلاً من ذلك، غالبًا ما تنظر ثقافات السكان الأصليين وغيرها من الثقافات القائمة على الأرض في جميع أنحاء العالم إلى المياه -ليس على أنها “ماذا” بل على أنها “مَن” -كصديق أو قريب؛ كمتعاون في علاقة متبادلة. ويغير هذا المنظور علاقتنا بالماء بطريقة تعزز الرغبة في رعاية الأنظمة التي تمدنا. وفي بعض أنحاء العالم، أصبح هذا المنظور مكرسًا في القانون: فقد كسب نهر وانجانوي في نيوزيلندا، ونهر الغانج في الهند، ونهر العقعق في كيبيك شخصيات قانونية. كما تناضل مجتمعات أخرى في جميع أنحاء العالم من أجل تحصيل الحقوق القانونية لأنهارها وأراضيها الرطبة ومستجمعات مياهها. ويمكن أن تشمل حقوق النهر الحق في التدفق، وفي التحرر من التلوث، والوفاء بالوظائف الأساسية لنظامه البيئي. وسيكون كل هذا ممكنًا عندما نوفر مساحة للمياه لكي تستعيد أطوارها البطيئة.
قد تبدو أزمة المناخ ساحقة، لكن “المياه البطيئة” تمكن الناس من جعل مجتمعاتهم أكثر مرونة وصمودًا. ويمكن لمثل هذه المشاريع أن تحمينا في الوقت نفسه من الفيضانات والجفاف، وأن تبطئ تغير المناخ عن طريق توفير مُصرِّفات الكربون الطبيعية،(1) وأن تدعم أشكالاً أخرى من الحياة، مما يساعد بدوره أنظمة المياه على الحفاظ على نفسها. وعلى نطاق المنزل والمدينة ومستجمعات المياه، يمكننا أن نعيد إلى موائلنا البشرية قِطعًا صغيرة متصلة من البرية حيث يمكن للمياه أن تتفاعل بحرية مع الأرض مرة أخرى. ويمكن لهذه الأماكن الأكثر طبيعية أيضًا أن تصنع مساحات أكثر هدوءًا في داخلنا، وقدرة أكبر على التكيف الشخصي. وسيكون إبطاؤنا أنفسنا لكي نراقب الفروق الدقيقة في بيئتنا -انحسار ومد المياه، ونمو النباتات واضمحلالها، وسلوكيات الحيوانات الأخرى- شأنًا تأمليًا وبهيجًا. إن هذه الظواهر هي دعوات لأن نصبح فضوليين؛ لأن نسأل: “ما الذي يريده الماء؟”.
*إيريكا جيز Erica Gies: هي صحفية مستقلة تغطي العلوم والبيئة من فيكتوريا، كولومبيا البريطانية، وسان فرانسيسكو، كاليفورنيا. تظهر أعمالها في صحيفة “نيويورك تايمز” ومجلة “سينتيفيك أميركان” و”ناشيونال جيوغرافيك” وغيرها. وهي مؤلفة كتاب ”المياه تفوز دائمًا: الازدهار في عصر الجفاف والطوفان”، (2021). Water Always Wins: Thriving in an Age of Drought and Deluge.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: What does water want? Most humans seem to have forgotten
هامش:
(1) مصرف الكربون أو “بالوعة الكربون”: هو أي شيء، طبيعي أو غير طبيعي، يراكم ويخزن بعض المركبات الكيميائية المحتوية على الكربون لفترة غير محددة، وبالتالي يزيل ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. وعلى الصعيد العالمي، فإن أهم بالوعتين طبيعيتين للكربون هما الغطاء النباتي والمحيط. وقد ازداد الوعي العام بأهمية مصرفات ثاني أكسيد الكربون منذ إقرار بروتوكول كيوتو للعام 1997، الذي يشجع على استخدامها كشكل من أشكال تعويض الكربون. وهناك أيضًا استراتيجيات مختلفة تستخدم لتعزيز هذه العملية، حيث تشكل التربة وسيلة مهمة لتخزين الكربون، من بين مخزِّنات أخرى.
المصدر: (مجلة أيون) / الغد الأردنية