يلجأ أحياناً زعماء البلاد الذين يخسرون الحروب إلى مراهنات يائسة ومتهورة. وقد تؤدّي الهزيمة أو حتى الفشل في تحقيق النصر إلى تهديد إمساكهم بزمام السلطة، فيكونون في بعض الأحيان على استعداد لاتخاذ خطوات جريئة أو خارجة عن المألوف في محاولة لتبديل مسار الأمور. وهنا يكمن الخوف الكبير بشأن الحرب في أوكرانيا، فإذا رأى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه في موقف صعب، قد يقرر اتخاذ إجراء كارثي.
وإذا فعل ذلك، فلديه بالتأكيد بعض الأدوات الخطيرة [القذرة] التي يمكنه استخدامها. في الأسابيع التي تلت هجوم أوكرانيا الكبير في سبتمبر (أيلول)، أظهر بوتين بالفعل استعداده لإصدار أوامر بشنّ ضربات جوية تقليدية وضربات صاروخية ضد أهداف مدنية، بما في ذلك المراكز السكانية والبنية التحتية لشبكة الكهرباء في أجزاء كثيرة من أوكرانيا.
وقد تجدد القوات الروسية هجماتها على محطة زابوريجيا النووية، مخاطرةً بإطلاق إشعاع نووي. وفي توقع أكثر تشاؤماً، لا يمكن استبعاد احتمال أن يستعمل بوتين أسلحة كيماوية أو بيولوجية ضد أهداف أوكرانية، كما فعل أسلافه السوفيات في حربهم في أفغانستان.
وبالنظر إلى رد الفعل الأخلاقي الذي قد ينجم عن ذلك، قد يفترض البعض أن موسكو ستحجم عن مثل هذا الإجراء. ولكن من الممكن أيضاً أن يتشجع بوتين على فعل ذلك بسبب ردود الفعل الضعيفة نسبياً التي أظهرتها الولايات المتحدة عندما استخدم الديكتاتور السوري بشار الأسد أسلحة كيماوية في الحرب الأهلية السورية وحينما استعملت روسيا غاز الأعصاب ضد المنشقين الروس الذين كانوا يعيشون في بريطانيا في عام 2018.
الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى عدد من المراقبين هو ذكر بوتين للأسلحة النووية مراراً وتكراراً. في الواقع، يمكن لروسيا، كدولة مسلحة نووياً، أن تستخدم قنبلة نووية تكتيكية في جهود شاملة ترمي إلى تغيير مسار الحرب.
ورغم أن الردود المضادة لمثل هذا الهجوم من المحتمل أن تكون مدمرة، قد يتساءل المراقبون عما إذا كان من الممكن أن يقرر بوتين أنه ليس لديه ما يخسره. في 27 أكتوبر (تشرين الأول)، أعلن بوتين، أنه “لا جدوى من [استخدام الأسلحة النووية]، لا سياسياً ولا عسكرياً”، بيد أن تعليقاته السابقة لم تكن مطمئنة للغاية. إذاً، هل سيبقى بعيداً من الخيار النووي حتى لو ازداد يأسه؟
الخبر السار هو أن التاريخ يشير إلى أنه من المستبعد أن يلجأ بوتين لتحقيق أسوأ مخاوف الغرب. اتخذ بعض القادة في الحروب الخاسرة إجراءات هائلة ودرامية لدرء الهزيمة، لكنهم غالباً ما عدلوا عن الخيارات الأكثر صرامة وقسوة، سواء لأسباب سياسية أو استراتيجية.
وعلى غرار القادة الآخرين الذين سبقوه، سيأخذ بوتين في الحسبان ما إذا كانت أفعاله قد تساعده بالفعل على الفوز، وسيكون متردداً ربما في التفكير في تحركات قد تعرض روسيا لخسائر أكبر، أو الأسوأ من ذلك، تقوّض حكمه في الداخل.
بالطبع، لا تزال هناك أسباب تدعو للقلق من أن يسيطر اليأس على بوتين. ولكن من خلال دراسةِ طريقة التصرف التي يميل القادة إلى اعتمادها في هذه المواقف، يمكن للولايات المتحدة وشركائها وحلفائها التوصل إلى تقييم أكثر إتقاناً لتهديدات بوتين ووضع سياساتهم الخاصة وفقاً لذلك.
يائس لكن ليس متهوراً
الوضع الذي يجد بوتين نفسه فيه الآن ليس جديداً. خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، حاول كثير من القادة الذين خاضوا حروباً خاسرة انتزاع النصر بطريقة ما من فكّي الهزيمة. في بعض الأحيان تنجح هذه التحركات الخطيرة، على غرار مجازفة الولايات المتحدة الجامحة خلال الحرب الكورية حين قامت بإنزال برمائي في مدينة إنتشون Inchon التي شن فيها الجنرال دوغلاس ماك آرثر، بعد أسابيع من التقدم الكوري الشمالي، هجوماً مفاجئاً على موقع محصن خلف خطوط العدو، أدى إلى تحقيق نصر حاسم.
لكن غالباً ما تفشل تلك التحركات: لننظر على سبيل المثال إلى قرار ألمانيا بدء حرب الغواصات غير المقيدة [حرب استُخدمت فيها الغواصات لمهاجمة جميع سفن العدو وإغراقها سواء كانت عسكرية أو مدنية أو تجارية] في المحيط الأطلسي في يناير (كانون الثاني) 1917، التي انتهى بها الأمر إلى جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الأولى وضمان هزيمة ألمانيا بشكل نهائي.
وهناك شيئان واضحان في هذه المجازفات العسكرية. أولاً، عادة ما تكون قائمة على أساس نظرية الانتصار. في الواقع، لن تقْدِم الدول على مثل هذه الخطوة إلا في حال وجود منطق يمكنها من خلاله قلب مسار الحرب. حين أمر أدولف هتلر بشنّ الهجوم الألماني الأخير في منطقة آردين في بلجيكا في ديسمبر (كانون الأول) 1944، كان يأمل في تحطيم الخطوط الأميركية وإجبار الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على التفكير في محادثات سلام.
في المقابل، كانت هجمات الزعيم العراقي صدام حسين باستعمال صواريخ “سكود” SCUD على المدن الإسرائيلية خلال حرب الخليج 1990-1991 تهدف إلى فصل الدول العربية عن تحالف الأمم المتحدة. وبالطبع، لم يبلغ أي من القائدين هدفه المنشود، لكن في كلتا الحالتين، كانت هناك على الأقل خطة أكبر قيد التنفيذ.
ثانياً، بمجرد أن الحرب تسير بشكل سيئ لا يعني ذلك أن كل الاحتمالات مطروحة على الطاولة. فرغم حشر القادة في الزاوية، قد يستبعدون بعض الخيارات. وقد يكونون حذرين من خطوة من الممكن أن تحمّلهم تكاليف استراتيجية ضخمة، حتى لو كانت ستقلب مجرى الأمور في ساحة المعركة.
في الحرب الكورية، على سبيل المثال، شكّل تدخل الصين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1950 خطراً جسيماً على الوضع العسكري الأميركي هناك. ورغم ذلك، استبعدت إدارة ترومان شن هجمات مباشرة على الأراضي الصينية لأن التصعيد بوجود اتحاد سوفياتي مسلح نووياً كان محفوفاً بالمخاطر.
في حالات أخرى، قد يتجاهل الزعيم بعض الخيارات خوفاً من النتائج السلبية على المستوى السياسي. وحتى الحاكم المستبد العديم الرحمة قد يدرك التكاليف الدبلوماسية المترتبة على بعض الإجراءات العسكرية. هذا لا يعني أن القادة يبتعدون كل البعد عن السلوك القذر، لكن ثمة خطوط لا يرغبون في تخطيها، حتى في الأوقات العصيبة. لنأخذ الأسلحة النووية على سبيل المثال.
منذ عام 1945، كان هناك عدد من الحروب التقليدية التي وجدت فيها الأطراف المسلحة نووياً نفسها خاسرة أو متعثّرة ضد أعداء غير مسلحين نووياً. لكنّهم اختاروا على الدوام عدم اللجوء لهذه الأسلحة: الولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان، وفرنسا في حرب الجزائر، والصين في حروبها مع فيتنام في أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والاتحاد السوفياتي في أفغانستان في الثمانينيات، فشلت جميعها في تحقيق أهدافها العسكرية بالوسائل التقليدية، ورغم ذلك لم يلجأ أي منها إلى الأسلحة النووية.
وحتى الأنظمة الشائنة تكون مقيدة أحياناً باعتبارات أخلاقية. لنأخذ على سبيل المثال إمبراطورية اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، أحد أكثر الأنظمة المعروفة بالإبادة الجماعية في التاريخ. في عام 1945، عندما بدت الهزيمة حتمية، فكر اليابانيون في شن هجوم غير عادي بالأسلحة البيولوجية على سان دييغو، من خلال إطلاق طائرات مائية تنشر البراغيث المصابة بالطاعون الدبلي وأمراض أخرى.
وفي النهاية، ألغى رئيس الأركان الياباني العملية، وكان ذلك، بحسب قوله، يعود جزئياً إلى أنه رغم أن اليابان قد استخدمت أسلحة بيولوجية ضد الصين في وقت سابق من الحرب، فإنه عبر استخدامها ضد الولايات المتحدة، “اليابان ستجعل من نفسها محط استهزاء العالم كلّه”.
ورطة بوتين
بالنظر إلى هذا النمط العام من ضبط النفس، ما هي العوامل التي قد تصوغ تفكير بوتين إذا استمرت النكسات العسكرية الروسية في التراكم؟ في الواقع، تتأثر حسابات الزعيم الروسي بحقيقة أنه راهن بالكثير على هذه الحرب. من الواضح أنه يخشى عدم النصر، أي عدم الحصول على تنازلات كبيرة من قبل الحكومة الأوكرانية.
لقد راهن بكل ما لديه، واصفاً “العملية الخاصة” بأنها ضرورية من أجل حماية روسيا من حلف الناتو وتحييد التهديد “النازي” الذي تشكله أوكرانيا، كما أنها ضرورية لكي تدرك روسيا هويتها وحدودها الحقيقية بعد إقامة نوفوروسيا [الاسم التاريخي لجنوب أوكرانيا وتعني روسيا الجديدة]. ومثل معظم الديكتاتوريين، بذل أيضاً جهوداً متضافرة من أجل تعزيز قبضته على السلطة حتى في ظل اندلاع الحرب.
رغم تلك الخطوات، فالمجهود الحربي الروسي يتعثر، وقد بدأ السكان الروس في التشكيك في الحرب، فأعرب البعض علناً عن غضبهم من سوء إدارة الحرب، بمن في ذلك المدونون المؤيدون للنظام، ورئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب الروسي [الدوما]، والقادة السياسيون المحليون داخل روسيا، والعاملون في وسائل الإعلام الروسية.
وداخل المجتمع الروسي، يبدو أن الاستياء يتزايد، كما يتضح من القرار الذي اتخذه ما يقرب من 300 ألف رجل روسي بالفرار من البلاد هرباً من التجنيد الإجباري الموسّع الأخير. ورغم الاعتقالات والقمع على نطاق واسع، تستمر الاحتجاجات المناهضة للحرب، بما في ذلك من أفراد عائلات الجنود الروس القتلى الذين يصعب إسكاتهم. وبطريقة موازية، يغرق الإنترنت بقصص عن المجندين الجدد الذين يرسَلون إلى المعركة من دون تدريب أو معدات مناسبة.
إذا فشلت روسيا في أوكرانيا، فقد يشكل ذلك تهديداً حقيقياً لسيطرة بوتين على السلطة. من غير المرجح حدوث ثورة جماهيرية على غرار ثورة 1917، أو انقلاب عسكري عنيف. لكن من المعقول أكثر أن نتخيل إزاحة غير دموية لبوتين عن السلطة، على غرار الطريقة التي أجريت فيها تنحية نيكيتا خروتشوف في عام 1964 أو ميخائيل غورباتشوف في عام 1991.
في هذه الحالة، ستتواصل النخب مع بوتين بشكل سري وتخبره أن الوقت قد حان لرحيله، من دون احتجاج علني أو اعتقاله، رغم أن نرجسية بوتين وجنون العظمة قد يجعلانه يرى حتى هذا النوع من الخروج المنظم غير مقبول. وفي ظل تعرض مستقبل سلطته للخطر، قد تكون لديه حوافز إضافية للاستمرار في إلحاق مزيد من الألم والدمار بأوكرانيا.
على سبيل المثال، من خلال تصعيد مستوى معاناة المدنيين، كما فعلت روسيا في الأسابيع الأخيرة، قد يأمل بوتين في دفع كييف إلى تقديم تنازلات. ولكن، مثل نظرائه في حروب خاسرة سابقة، من المستبعد أن يسعى بوتين اليائس إلى اتخاذ أكثر الخيارات قسوة.
وبالطبع، فإنّ أحلك كابوس لأوكرانيا وحلفائها الغربيين، هو قرار روسي بشن هجمات نووية. لكن دعونا ندرس العوامل التي سيحتاج بوتين إلى أخذها في الحسبان عند اتخاذ هذا الخيار. أولاً، من الجدير أن نشير إلى أي مدى ستُعتبر خطوة من هذا النوع غير مقبولة على الإطلاق.
منذ عام 1945، انخرطت الدول في مجموعة من التكتيكات المرعبة، باستخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وذبح المدنيين، والتورط في الاعتداء الجنسي الجماعي. ورغم ذلك، لم تستخدم الأسلحة النووية قط. وقد صرّح الرئيس الأميركي جو بايدن وحلفاؤه في الناتو مراراً وتكراراً أن هذا خط أحمر واضح يجب ألا تتخطاه موسكو.
والجدير بالذكر أن عزلة بوتين المتزايدة وحكمه الاستبدادي المتشدد لا يعنيان أنه يعتبر استخدام الأسلحة النووية أمراً مقبولاً. صحيح أنه في السنوات الأخيرة، اتخذ خطوات كبيرة من أجل قطع علاقاته مع الغرب وأعلن جهراً عدم مبالاته تجاه استنكار الغرب إزاء قبضته التي تزداد إحكاماً على المجتمع الروسي، ودعمه لحكومة الأسد في سوريا، وتدخله في الانتخابات الغربية وغزوه لأوكرانيا وكل شيء آخر.
لكنّ مبادرة روسيا باستخدام السلاح النووي أولاً سيكون أمراً مختلفاً تماماً. فهو الشيء الوحيد الذي قد يدفع العالم بأسره، بما في ذلك حلفاء روسيا، إلى الابتعاد عن موسكو وسحب دعمهم لها. ومن المحتمل أن ينشأ رد فعل عنيف داخل روسيا أيضاً، بخاصة إذا حدث أول استخدام نووي روسي من دون تدخل الناتو المباشر في الحرب. في ذلك السياق، أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا المستقل في موسكو في يونيو (حزيران) أن 38 في المئة من الروس “خائفون للغاية” من استخدام روسيا المحتمل للأسلحة النووية.
وبغض النظر عن توليد استنكار كبير، فإن استخدام السلاح النووي قد يفتح الأبواب التي يفضل بوتين تركها مغلقة. فهو قد يؤدي إلى مشاركة حلف الناتو أو القوات الجوية التابعة له بشكل مباشر في أوكرانيا. وبالطبع هناك احتمال بأن يرد الناتو بالمثل، وهو أمر لا تريده روسيا، بخاصة بالنظر إلى ترسانة الولايات المتحدة المتفوقة.
علاوة على ذلك، فإن الأسلحة النووية ليست مفيدة بشكل خاص كأدوات حرب، إذ إنها غير مناسبة لاحتلال الأراضي. فهي إما ستدمر أو تعرض للإشعاع أي ممتلكات تعقد روسيا الأمل على غزوها. وبالطبع، ينطوي استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا على خطر التسبب في تداعيات إشعاعية تؤثر في روسيا نفسها.
والجدير بالذكر أن حادث المحطة النووية عام 1986 في تشيرنوبيل بأوكرانيا، الذي أطلق كمية من الإشعاع أقل بكثير مما يمكن أن يولده انفجار ناجم عن سلاح نووي، أنتج غباراً نووياً مشعاً انتشر فوق روسيا، ومن المحتمل أنه تسبب للسكان الروس في بعض الآثار الصحية نفسها التي أصابت الأوكرانيين، مثل زيادة معدل الإصابة بسرطان الغدة الدرقية.
إضافة إلى ذلك، ليس لدى أوكرانيا أهداف عسكرية واضحة للهجمات النووية، مثل الأسلحة النووية أو حاملات الطائرات. فالقوة العسكرية للبلاد مبنية على عشرات الآلاف من المقاتلين الشجعان الموزعين على مئات الآلاف من الكيلومترات المربعة من الأراضي، وغالباً ما يتم نشرهم في أماكن قريبة من القوات الروسية.
إذاً، لن تؤدي الهجمات النووية المحدودة ضد القوات الأوكرانية إلى إلحاق أضرار جسيمة بالقوة العسكرية الأوكرانية. وفي ذلك الإطار، أشار جنرالات روس متقاعدون إلى أن الأسلحة النووية ليست لها فائدة تذكر، بخاصة أن الأسلحة التقليدية يمكنها الآن تحقيق عدد كبير من الأهداف العسكرية الأهم لروسيا، على غرار تدمير البنية التحتية الأوكرانية. في أكتوبر (تشرين الأول)، أعربت الحكومة الأوكرانية عن قلقها من أن روسيا قد تدمر سد نوفا كاخوفكا العملاق في جنوب أوكرانيا، ولكن بالأسلحة التقليدية.
وبالطبع، هناك احتمال بأن يستخدم بوتين الأسلحة النووية ضد المراكز السكانية الأوكرانية في محاولة لكسر إرادة المقاومة لدى الأوكرانيين. وقد يبدو أن هجمات من هذا النوع تملك أهمية استراتيجية أكبر، رغم أن التاريخ يظهر أن قصف المدنيين لا يتسبب مطلقاً في تقديم الدولة المستهدفة تنازلات كبيرة، كما أن استخدام الأسلحة النووية لمجرد قتل عدد كبير جداً من الناس بدلاً من تحقيق نوع من الأهداف العسكرية من شأنه أن يثير غضباً عالمياً عارماً.
وإلى جانب الضربة النووية، فإن التحرك اليائس الآخر الذي يخشاه الغرب هو هجوم روسي مباشر، على الدول الأعضاء في الناتو، حتى لو كان غير نووي. وبالنظر إلى الوضع الحالي وتصريحات بايدن، سيكون من الصعب جداً على الولايات المتحدة تجنب الدخول في الحرب مباشرة إذا أقدمت روسيا على خطوة مماثلة، بيد أنّ هذا النوع من الهجوم أقل ترجيحاً حتى من الهجوم النووي، بسبب افتقاره للمنطق الاستراتيجي. فالقوات الروسية تتعرض للهزيمة بالفعل أمام الجيش الأوكراني؛ لذا، يجب أن يخشى الكرملين بالتأكيد احتمال التعرّض للإذلال من قوات الناتو.
قوة المنطق
بالنظر إلى تلك العوائق الكبيرة التي تحول دون أي تصعيد حاد من قِبل بوتين، يمكن للغرب أن يخفف مستوى الذعر قليلاً. ومثلما أن المخاوف التي انتابتنا عن حق من احتمال أن يرتكب صدام أفعالاً يائسة، لم تردعنا عن تحرير الكويت عام 1991، فإن المخاوف من يأس بوتين ينبغي ألا تمنعنا من دعم أوكرانيا.
يجب على القادة الغربيين مواصلة مسار عملهم الحالي، المتمثّل بتوفير إمدادات ثابتة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، والبحث عن طرق لعزل روسيا دبلوماسياً واقتصادياً، وإبقاء قوات الناتو خارج القتال، مع العلم أن هذا المسار يسمح لأوكرانيا بالقتال والصمود وإحراز تقدم من دون خلق خطورة كبيرة من إمكانية تحقق أسوأ مخاوف الغرب. ومثلما ينبغي أن تحرص الولايات المتحدة على عدم الاستفزاز أو تقديم ذريعة على نحو غير ضروري للتصعيد الروسي، فلا داعي أيضاً لسعيها إلى تحقيق السلام مهما كان الثمن.
ورغم ذلك، فإن إيجاد مخرج من الحرب، وتكاليفها البشرية المتصاعدة، أصبح أمراً ملحاً بشكل متزايد. في الواقع، يستمر الصراع في إنزال معاناة جسيمة بالشعب الأوكراني، وإلحاق أضرار اقتصادية بجزء كبير من بقية العالم من خلال تعطيل أسواق الطاقة والغذاء. ومن الممكن والمستطاع أن يلجأ بوتين إلى تكتيكات قد تزيد من المعاناة والأضرار، حتى من دون الضغط على الزناد النووي.
وتجدر الإشارة إلى أن إيجاد مخرج يعني إجراء محادثة حقيقية حول ما يجب أن تكون عليه شروط السلام. وبالنظر إلى النجاحات العسكرية الأوكرانية هذا الخريف على وجه الخصوص، فإن الاعتراف الأوكراني بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، كما اقترح إيلون ماسك أخيراً، من المحتمل أن يكون خارج النقاش.
لكن في مقابل سحب روسيا على الأقل لجميع قواتها من أوكرانيا والالتزام الشفهي بعدم دعم الجماعات المتمردة داخل البلاد، يمكن أن توافق أوكرانيا على البقاء خارج حلف الناتو، بخاصة أن العضوية الأوكرانية فيه من غير المرجح أن تمر عبر مجلس الشيوخ الأميركي، وحتى من دون تلك العضوية، يمكن لحلف الناتو الاستمرار في تزويد أوكرانيا بالتدريب والأسلحة. ويمكن أن توافق أوكرانيا أيضاً على إعادة تدفق المياه إلى شبه جزيرة القرم، وهو أمر تستطيع القيام به من دون الاعتراف بالاحتلال الروسي لأوكرانيا.
على الولايات المتحدة أن لا تسمح لخوفها المبالغ فيه من الأعمال المرتكبة بداعي اليأس بأن يثنيها عن تعزيز المصالح الوطنية. أحياناً، يرغب أعداء الغرب في التظاهر باليأس أو الجنون لإخافته ودفعه إلى التقاعس عن العمل. لذا علينا أن لا نفسح لهم هذا المجال.
دان رايتر هو أستاذ في معهد صموئيل كاندلر دوبس للعلوم السياسية بجامعة إيموري ومؤلف كتاب “كيف تنتهي الحروب” How Wars End.
“فورين أفيرز”، 7 نوفمبر 2022
المصدر: اندبندنت عربية