بات السجال حول علاقة الدين ودوره في المجتمع، و”الدولة” بشكل خاص، من القضايا التي أسست للكثير من الإجماع أو الافتراق في تفاصيل الحياة السورية “الاجتماعية والسياسية” بعد عام 2011، بالتزامن مع ما خبرته الساحة السورية في العقد الأخير من بروز أشكال مختلفة من التيارات الراديكالية، وطغيان الخطاب الديني على طيف واسع من المعارضة السورية “السياسية والعسكرية”، ناهيك عن تجربة الشتات والتهجير، والعودة للانتماءات الأولية الضامنة للأمن والحماية الفردية.
استناداً إلى كل تلك التصورات، نشرت منظمة «اليوم التالي» دراسة حول «أنماط التدين والقضايا المدنية والسياسية» قام بها الباحث حسام السعد، طبقت على السوريين في أماكن تواجدهم؛ سوريا في مناطقها كافة، تركيا، دول الجوار العربي، أوروبا، من الأديان والطوائف المختلفة المكوّنة لسوريا. وبلغت عيّنة الدراسة 2860 سورياً.
اعتمدت الدراسة طريقاً منهجياً مغايراً للكثير من الدراسات التي تتعلق بدراسة المجتمع السوري، فقد تم تصميم “مقياسين” هما “مقياس أنماط التدين” و”مقياس أنماط الشخصية السورية” أو مقياس درجات الانفتاح في الشخصية السورية. وتم تحليل متغيرات الدراسة والقضايا المدنية والسياسية بالعلاقة مع أنماط التدين وأنماط الشخصية.
ناقشت الدراسة بتفصيل دقيق اتجاهات السوريين، على اختلاف أنماطهم الدينية والشخصية حول الواقع الحالي في سوريا، بعد مرور أكثر من عشر سنوات من الإرباك والضبابية التي أحاطت بـ “الحالة السورية”، وذلك في مستويات عدة “الاجتماعية والمدنية والسياسية والدينية والجندرية”.
وقد كان من أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة غياب أي جسم أو هيئة، سياسية كانت أم دينية، تمثّل السوريين ويعتبرونها مرجعية سياسية أو حتى دينية لهم.
غياب المرجعيات يعني غياب المعايير والقواعد الناظمة لنمط التفكير والذهنية السورية تجاه ما يجري في سوريا.
الانتماء السوري راهناً
تقاطعت هذه النتيجة مع قياس “الانتماء” السوري راهناً، إذ كانت “عيّنة الدراسة” مربكة أمام أسئلة “الانتماء وتعريف الذات”، وأعادت نفسها لانتماءات “أولية”. وعلى الرغم من ارتفاع مستوى الانتماء الوطني، إلا أن الانتماءات الأولية كانت حاضرة لدى العديد من مكوّنات العينة”الدينية والقومية”.
وتماشياً مع ما سبق، ظهرت نتيجة أخرى كاشفة للحالة السورية المتأزمة، وهي غياب “المرجعيات” الموثوقة لجموع السوريين، أو قُل لتواجدهم كتنظيمات خاصة في كل مجتمع لجوء، أو في الداخل السوري. غياب المرجعيات يعني غياب المعايير والقواعد الناظمة لنمط التفكير والذهنية السورية تجاه ما يجري في سوريا وارتباطه تتالياً مع العالم الخارجي بكل تعقيداته.
لقد غاب الخطاب الوطني السياسي السوري الذي يستطيع السوريون الإجماع عليه. وترافق ذلك مع فشل المسارات التي تشكلت لحل المشكلة السورية، وفشل خطاب حكومة دمشق في بقاء كسب مؤيديها، بعد التخبط السياسي والاقتصادي وتأثيره على السوريين هناك. وكذلك فشلت سلطات الأمر الواقع في إدلب وريف حلب ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في تقديم مرجعيات وطنية وبنى مؤسسية لمن يعيشون في تلك المناطق.
أضف إلى ذلك، غياب الشخصيات أو “الرموز” الوطنية الجامعة، إذ لم تظهر شخصيات مستقلة تستقطب القطاع الأكبر من السوريين، مع تحقيق (النُخب السورية) معادلتها المعهودة منذ ما قبل 2011، وهي أنها بقيت بعيدة عن القواعد السورية في تنظيماتها الاجتماعية؛ مُكرّسة فشلها وضبابية موقفها وإرباك خطابها.
فشلت سلطات الأمر الواقع في إدلب وريف حلب ومناطق سيطرة قسد في تقديم مرجعيات وطنية وبنى مؤسسية لمن يعيشون في تلك المناطق.
العائلة والعشيرة كمرجعية
وأظهرت “عيّنة الدراسة” جملة من المشكلات ذات التعقيد العالي، منها الارتداد إلى المرجعيات الأوّلية، في صيغة لتنظيمات اجتماعية ما قبل حديثة. والتي أبرزت عودة العائلة والعشيرة كمرجعية رئيسة لأفرادها، وهو أمر مفهوم مع غياب أدوار مؤسسات الدولة في رعاية مواطنيها، وهو لم يكن حاصلاً حتى قبل الحراك الثوري بشكل سليم.
وتصدرت “المسألة الطائفية” الخلل في المشهد الاجتماعي العام، وهي مفرز طبيعي من مفرزات الحرب، وذلك بسبب اعتماد النظام السياسي عليها في تجييش “طائفته” لكسب تأييدهم ضد الحراك الثوري. وهو ما نجح به بامتياز، ما أسس لميليشيات طائفية باتت تحارب تحت مسميات ورموز دينية، حتى تحول الصراع إلى صراع ديني/ طائفي لديهم، جلب معه العديد من الميليشيات الطائفية من خارج سوريا، لتحارب الشعب السوري تحت حجة رواية اخترعها النظام السياسي للحفاظ على بقائه.
وهذا ما أسّس، في رأي عينة الدراسة، للارتداد إلى الطائفة الدينية لدى السوريين، فما دام الجميع يُحارَب باسم العامل الديني، فقد كان من المتوقع أن يتم الرد، عملياً ونظرياً، على راديكالية النظام وطائفيته “في العنف والإقصاء” بخطاب مشابه من التموقع في حدود الطائفة الدينية أيضاً لدى الآخرين.
كل ذلك أسس لسيادة الهوية الدينية على حساب الهوية الوطنية، لا سيما مع الإقصاءات المتبادلة من قبل الجميع، وإن كانت البداية دائما مرهونة بالنظام، فظهرت مقولات المجتمع المتجانس وغيرها، التي تدل على “خطة استبعاد ممنهج” للمكوّنات التي لا (تشبهنا)، وهو ما أسس لإرساء شكل الجسد الاجتماعي السوري على ما هو عليه الآن.
“المسألة الطائفية” مفرز طبيعي من مفرزات الحرب، وذلك بسبب اعتماد النظام السياسي عليها في تجييش “طائفته” لكسب تأييدهم ضد الحراك الثوري.
وازداد دور رجال الدين في الحياة اليومية والعامة لدى السوريين، وبات الدين هو المرجعية الأولى لدى قطاعات كبيرة لديهم، ترافقاً مع ظهور النزعات القومية للعلن، كما هو الحال لدى أكراد سوريا.
شروخ اجتماعية
ورغم ذلك، فقد أظهرت النتائج “رغبة في وجود هوية وطنية” ينضوي السوريون تحت رايتها، فكل الشروخ التي شوهت الجسد الاجتماعي السوري، كانت، برأي عيّنة الدراسة، نتائج بديهية من منهجية عمل النظام السياسي طوال عقود حكمه في القمع على أساس قومي أو فكري أو ديني أو مناطقي. لذلك، فإن كل مفرزات الحرب على المستوى الاجتماعي، كان متوقعاً لها أن تبرز وتظهر وتشكل شبكة من الصراعات البينية بين السوريين.
ومن النتائج الأخرى تذكر الدراسة:
-سيادة “نمط التدين المتوسط” عند السوريين، باستثناء دول أوروبا وتركيا بدرجة ثانية، التي ارتفع فيها (نمط التدين القليل).
-رفض المحاصصة الدينية أو الطائفية في الممارسة السياسية.
-تأييد الحرية الدينية وحرية الاعتقاد الديني.
-تراجع اهتمام السوريين بمتابعة التطورات السياسية في سوريا.
-اتجاه إيجابي نحو قضايا مواقع وأدوار المرأة في الحياة العامة السورية (مناصب سياسية قيادية، هيئات دينية رسمية).
المصدر: “القدس العربي”