عندما مات حافظ الأسد كتبت مقالا عنه في صحيفة الراية القطرية عنونته ب (موت الرجل الذي أعاد سورية الى القرون الوسطى!) بينت فيه دقة الاتهام الذي ينطوي عليه العنوان السابق، وأعيد هنا شرح محتواه في ضوء ما يجري اليوم في قمة السلطة من صراع الضواري والزمر اللصوصية.
في عشرية الثورة بات غالبية السوريين (وقسم أكبر من العرب) من ابناء الجيلين السابقين والجيل الحالي يعرفون جيدا ما يمكن تسميته ب (الاستراتيجية الأسدية) للسيطرة على سورية، والتي بدأت منذ ستينيات القرن العشرين، والمستمرة حتى الساعة، بالوسائل العسكرية، وتحويل الجيش من مؤسسة وطنية تتمحور عقيدتها القتالية على مواجهة العدو الاسرائيلي وتحرير فلسطين، الى جيش طائفي فاسد، خاضع للسيطرة العلوية، تتمحور وظيفته في حماية النظام وتكريس حكم العائلة، والولاء لسلالة آل الأسد حصرا واحدا بعد آخر.
بيد أن عددا قليلا جدا من المتخصصين السوريين والعرب فقط، هم الذين يعون الجانب الاقتصادي من استراتيجية الهيمنة الأسدية. فالحكم والسيطرة السياسية والأمنية ليستا سوى وسيلتين وأداتين، لغاية أبعد وأعلى وأخطر، كانت واضحة في تطلعات النخبة العلوية، واتضحت تدريجيا في مخططاتهم للمتخصصين فقط، بينما غابت عن نظر القوى والنخب السياسية، بدليل غياب أي إشارة عنها في أدبيات أحزاب المعارضة، وخاصة اليسارية.
كان الأسد وأمثاله من العلويين المتطلعين لحكم سورية وإقامة دولة ذات عصبية علوية، ثم طورها حافظ بإضافة فكرة تثبيت “سلالة عائلية علوية” على رأس الدولة على عادة القرون الوسطى. وكان هؤلاء يعرفون أن القوة الاستراتيجية الحقيقية في أي بلد ومجتمع هي القوة الاقتصادية لا السياسية ولا العسكرية، لأن الاحتفاظ بهاتين الوسيلتين يصعب ضمان ديمومته، أما القوة الاقتصادية فيمكن ضمانها، بدليل أن مراكز الثروة في سورية حتى ستينيات القرن السابق ظلت تتمركز في ايدي جماعات وعائلات اكتسبت ثرواتها منذ قرون في العهد التركي، واستمرت في عهود الاحتلال الفرنسي والاستقلال.
بناء على ذلك خطط (علويو المشروع الطائفي) مبكرا لإعادة توزيع الثروة السورية في المجتمع، بتجريد الفئات الاقطاعية والبورجوازية من ثرواتها ونقلها من مراكزها التقليدية في دمشق وحلب وحماة وحمص والجزيرة وادلب وحوران، وتوجيهها للساحل. وقد لمس السوريون مدى شبق أولئك الصاعدين الى السلطة السياسية والأمنية والادارية للمال، باي وسيلة، ومدى جشعهم وطمعهم، بل ومدى حقدهم الطبقي على مواطنيهم في المحافظات الاخرى، حتى أن رجال السلطة كانوا يشترون بالرشى قرارات ارسالهم للخدمة في المحافظات الغنية، كحلب وادلب والجزيرة، لأن الخدمة فيها تكفل لهم طريق الثراء المضمون.
وفي السبعينيات ومع دخول القوات السورية لبنان، أضيف هذا البلد المزدهر الى قائمة الأماكن التي تثير شهية الضباط السوريين، حتى أن قيادة الأركان نظمت دورا لإرسالهم للخدمة فيه، والمشاركة في نهبه ، وخاصة العلويين .
البداية في انقلاب 1963 :
بدأ عمليات تنفيذ استراتيجية النهب ونقل الثروة من أيدي التجار والاقطاعيين الحلبيين والشوام والجزراويين والأدالبة والحمويين الى أيدي العلويين في الساحل فورا بعد انقلاب البعث 1963، واستعملت قرارات (التأميم) كوسيلة فيها وتحطيم مراكز الثروة القديمة، وخلق طبقة جديدة على أنقاضها. فقد جرى تسليم المصانع والشركات المصادرة والمؤممة الى موظفين بلا أهلية ولا كفاءة ولا أخلاق وطنية، فكانوا ينهبون الشركات والمؤسسات حتى تفوح روائح فسادهم وتفتضح سرقاتهم فيتوجون جرائمهم بإحراق المصانع والشركات لتنعدم السجلات وتختفي الآثار. وظهر أثرياء سوريون في العالم بدأوا طريقهم من سرقة الشركات التي وضعهم الحزب الحاكم على رؤوسها لبناء الاشتراكية، وتحقيق العدالة وتنمية البلد فنهبوها ثم أحرقوها. وما محمد مخلوف والد رامي وخال بشار إلا نموذج من هؤلاء اللصوص المحميين من الطغمة الحاكمة. وفي هذا السياق تسلق أقرباء حافظ الاسد وهم بالمئات درج السلطة والجاه والمال، وعلى رأسهم رفعت وجميل وهلال وفواز الأسد. ومنذ بداية انقلاب حافظ 1970 سيطر أخوته وأقرباؤه على الميناء السوري الوحيد، وعلى حدود لبنان، فأداروا تجارة التهريب التي تدر المليارات بطرق غير شرعية على حساب خزينة الدولة.
ومارس رجال العائلة والطائفة البلطجة والخوة والتشبيح على سكان محافظات الساحل السنية، وخاصة اللاذقية ودمشق وحمص حيث يجبرونهم على مشاركتهم مشاريعهم وثرواتهم واموالهم بالإرهاب والقتل والخطف والاعتقال. وشكل هؤلاء دولة خارج الدولة وعلى حساب القانون، فلا تجرؤ مؤسسات الدولة من شرطة وأمن وقضاء وجمارك محاسبة أحدهم. بسبب حماية السلطة العلوية العميقة في النظام الحاكم لهم وتشجيعها لهم. حتى أن رفعت كان يأمر جنوده بقتل من يحاول منعهم من ارتكاب جرائمهم، حتى ولو كان من رجال الشرطة العسكرية، الأمر الذي حول البلد مزرعة فساد وفوضى يحكمها السلاح وقانون الغاب منذ عام 1972 .
وامتهن كثير من الشخصيات العلوية النافذة رجالا ونساء مهنة يسميها القانون الجنائي السوري (تصريف النفوذ ) ويسميها الناس ( الواسطة ) فأخذ السوريون يلجأون لهم لحل مشاكلهم في أجهزة الدولة مقابل رشاو بالملايين .
وبأوامر من الأسد تضاعفت مخصصات المحافظات والمدن العلوية ومشاريع التنمية والبناء والتحديث من الميزانية العامة للدولة، بشكل يفوق مخصصات المحافظات الأخرى الأكبر والأهم كالحسكة ودير الزور ودرعا، وحتى حلب التي لم يبنى فيها مشروع كبير واحد طوال فترة 1970 – 2010 بحجة الاهتمام بالمناطق الاقل نموا، غير أن هذه القاعدة لم تطبق على المحافظات المهمشة شرقا وجنوبا وهي اقل نموا من مدن الساحل. وكان النظام يأمر المحافظين بتحويل فوائض ميزانياتهم وجباياتهم الى محافظات الساحل، حتى أصبحت في الثمانينيات الأكثر تطورا، على صعيد البنى التحتية، والازدهار الاقتصادي، والخدمات والتعليم والصحة ومستوى الدخول والرفاه. وقد نشرت صحيفة تشرين اليومية في يوم من ايام 1980 ريبورتاجا عنوانه (الساحل السوري يحقق الاكتفاء الذاتي). وعندما شاعت معلومات عن اكتشاف النفط والغاز في الساحل بكميات ضخمة روج اعلام النظام لمقولة إن الثروة المكتشفة تؤهل سكان الساحل من للتمتع بدخل يوازي دخل الشعب الكويتي، وفسرت المقولة بأنها تلويح بالانفصال العلويين عن سورية إذا تعرضت امتيازاتهم أو سلطتهم للخطر. وتكرر الترويج لهذه المقولة بعد الثورة على نطاق واسع من مركز ابحاث يديره عماد فوزي الشعيبي الموالي للنظام، وروجتها قناة الميادين، والقناة السورية، علما أن المراكز العلمية في العالم كذبت المعلومات عن وجود نفط في الساحل لا في البحر ولا في البر كما زعمت السلطة منذ السبعينيات، وقيل إن حافظ أمر بالتكتم عليه ليبقى رصيدا للعلويين فقط مستقبلا!
نقل ثروة حلب وصفقة دمشق:
ومع بداية الثورة الشعبية 2011 ظهر نوع جديد من خطط إعادة توزيع الثروة السورية ونهب المحافظات الأخرى، وخاصة حلب وادلب، وهي التشجيع على تدمير أكثر من الف مصنع في حلب وحدها، ودعوة رجال الأعمال والمال الاثرياء منها لنقل شركاتهم ومصانعهم الى مدن الساحل وتقديم ضمانات أمنية لهم مقابل حصص رسمية أو رشاوا، واضطر كثير من رجال الاعمال فعلا للانتقال الى الساحل ومشاركة رجال السلطة والأمن العلويين .
وهكذا اصبحت المناطق العلوية في السنوات الاخيرة مناطق جذب للرساميل والاستثمارات بسبب توفر الاستقرار والامن والحماية نسبيا ، وتوفر الخدمات والطاقة والماء والانترنت أفضل من أي مدينة أخرى ، بما فيها دمشق العاصمة .
ولا بد من الإشارة الى أن النظام الاسدي منذ نشوئه ارتكز على تفاهم راسخ بين ألطغمة العلوية وبورجوازية دمشق ، أبرمه في مارس 1980 حافظ الأسد شخصيا مع غرفة تجارة دمشق برئاسة راتب الشلاح ومباركة كبار الاثرياء مبني على تأييدهم للنظام ومنع الثورة ضده ، مقابل منح الأسد لهم اكثر من عشرين مطلبا وتعيين رئيس حكومة منهم ( عبد الرؤوف الكسم ) لينفذ الاتفاق . وبفضل الاتفاق منع حافظ شقيقه رفعت من استباحة دمشق لو انضم تجارها للاضراب المفتوح الذي قاده تجار عاصمة الشمال حلب وامتد الى حماة وادلب ومحافظات الشرق الثلاث واستمر نحو شهر .
والجدير بالذكر أن الاتفاق ما زال ساريا لليوم ، ويبدو أنه تجدد وتعمق باطراد نتيجة انتقال حوالي مليون علوي من قاعدة النظام وشرائحها للإقامة في دمشق ودخول معظمهم في علاقات شراكة وتبادل منفعة مع الدمشقيين ، ولا سيما التجار ، مما خلق مصالح مشتركة واساسا ثابتا لاستمرار هذه العلاقة الشاذة , والتي تجلت ثانية بعد ثورة 2011 ، في علاقة التضامن والتأييد التي منحتها بورجوازية دمشق للنظام في أخطر مراحله ، وتؤكد مصادر كثيرة أن تجار وأثرياء الشام قدموا مليارات الدولارات للنظام استردوها من جيوب الناس بإطلاق أيديهم لاستغلال حالة الحرب وجني ارباح طائلة . كما تشير المعلومات الى أنهم قاموا بدور الوسيط بين النظام والجماعات المسلحة التي ركبت ظهر الثورة وسيطرت بالسلاح على ريف دمشق والغوطتين ، واستطاعوا منعهم من اقتحام العاصمة وتوفير الأمن والحماية لها ، ليبدو النظام أمام العالم الخارجي ، وكأنه ما زال يحظى بتأييد شطر كبير من الشعب ، وهي خدمة لا تقدر بثمن حصل عليها نظام الزمرة المافياوية الاجرامية التي دمرت المحافظات والمدن الأخرى تدميرا شبه كامل ، حتى أصبح كثير من أثرياء حلب سابقا باعة (بسطات) في الشوارع ليوفروا ما يسد رمقهم ، بعد أن نهبت ودمرت وأحرقت مصانعهم وشركاتهم ومحالهم ، بشكل مبرمج في كثير من الأحيان والحالات ، وأصبحت مدنهم تفتقر للبنى التحتية ، تحتاج عشرات الاعوام لتنهض من جديد ، وفي هذا مصلحة أكيدة لبعض شرائح بورجوازية دمشق الجشعة ، أو التي باعت ضميرها الوطني للشيطان الحاكم !
المصدر : مجلة الشراع اللبنانية