مرت هذه الأيام الذكرى الثالثة لاندلاع ثورة تشرين العظيمة في العراق عام 2019 التي هزت اركان العملية السياسية واحزابها فأجبرت رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة من منصبه وسببت رعبا كبيرا لكل الأحزاب مما استدعى اغتيال ما يزيد على 800 متظاهر ومتظاهرة وجرح ثلاثين الفا منهم وخطف وسجن وتغييب أكثر من خمسة الاف اخرين في سجون الميليشيات الولائية. ورغم ان شباب العراق قد صمم على الاحتفاء بهذه المناسبة في ظروف متوترة وسيئة وخرج بضعة الاف في ساحة التحرير وفي الناصرية والمدن الجنوبية الا ان الحكومة قد تهيأت على ما بدا منذ زمن لقمع التظاهرة مثل اغلاق كافة المحلات المحيطة بالتحرير لمنع المتظاهرين من الماء والطعام ودس الشغب الذي اعتدى على القوات الأمنية والقيام باستعراض للمليشيات الولائية وسط ساحة التحرير لإيصال رسالة القمع والترهيب والتخويف للمتظاهرين، ومع تجاهل الشباب هذه الرسالة تحركت القوات الأمنية لتعتدي على المتظاهرين في حين ان هذه الحكومة نفسها قد سمحت منذ أسابيع للتيار الصدري بالتظاهر ودخول البرلمان دون ان تبدر منها ومن قواتها الأمنية أي بادرة عنف إزاء المتظاهرين. لم يكن القمع وحده ينتظر الشباب في التحرير بل ان جوقة مهمة من اعلامي الأحزاب وذبابها الاليكتروني وحاشية الشخصيات السياسية والميليشيات الولائية كانت مستنفرة في القنوات التابعة للأحزاب لتشويه تشرين وشبابها وتنتقم منهم لما فعلوا بها متوعدة إياهم بالعنف في حال تكرار مثل هذه الثورة التي دخلت كل بيت عراقي من شماله الى جنوبه وشارك فيها الإباء والامهات مع الأبناء وتصدرت الطبيبات والممرضات والفنانات الشابات في مقدمة صفوف المواجهة التي كانت معركة حقيقية بين الشعب وبين برلمان واحزاب المنطقة الخضراء. معركة يقول شعبنا اليوم وشبابه انها لم تنته بل كما قالت احدى الطالبات المتظاهرات: نحن هنا ليس لإحياء تشرين 2019 بل لكي نستمر فيها لتحقيق المطالب التي كتبت وعلقت على المطعم التركي مقابل ساحة التحرير من قبل ثوارها، مستحيل نرجع ونتراجع، لا نريد هذه الطبقة الفاسدة، نريد اسقاطها. بل ان أحد الشباب أكد لنا شخصيا بأن الثوار قد فهموا ان الاحتجاجات بهذه المناسبة وفي التحرير بالذات ستكون مجزرة مجانية جديدة ضد الشباب تحضر لها الحكومة التي دست ” قادة ” ليغيروا مجرى الاحتجاجات ويديروها كما تريد الحكومة، لذلك فضل المنظمون اختيار وقت آخر لتشرين لان الحكومة التي شكلها الإطار التنسيقي اليوم هو السبب في خروجنا ضدها عام 2019.
كما قال هذا الشاب وكما هو تعبير خيبة الشعب العراقي من عودة الأحزاب التي دمرت العراق، لا تبدو حكومة العملية السياسية الثامنة برئاسة محمد شياع السوداني مختلفة عن الحكومات السابقة رغم انه اول شخص يتسلم رئاسة الوزراء من عراقي الداخل. فقد جاء “الفرج” لحلحلة ما سمي بالانسداد السياسي واختيار اسم رئيس الوزراء بتنازلات بيع للالتزامات الوطنية ومن ثم بالتزامن مع ترسيم الحدود بين دولة الاحتلال في فلسطين وبين حزب الله اللبناني، وتشكلت الحكومة في نفس اليوم الذي تم فيه توقيع صفقة المقايضة هذا للملف النووي الإيراني، بأشراف الجنرال قآآني الذي كان حاضرا في البرلمان لمتابعة سير العملية وبحضور الشيخ كوثراني المسؤول عن الملف العراقي في حزب الله. كما ان برنامجه الحكومي هو نسخة مطابقة لبرامج من سبقه اذ يتكرر الكلام فيها عن الإصلاح ومحاربة الفساد ودعم الطبقات الفقيرة ومعالجة البطالة ومشاكل الاقتصاد المدمر …الخ. فأما الإصلاح ومحاربة الفساد فقد تأكد انه امر مستحيل لان وجود الفساد مرتبط بوجود واستمرار العملية السياسية بشهادة أهلها الوزير السابق على الاديب الذي قال ان القضاء على الفساد يعني سقوط العملية السياسية. اما الأهم فهو ان حكومة السوداني هذه هي حكومة محاصصة وليست حكومة كفاءات على عكس مطالب الشعب العراقي وثوار تشرين المطالبين بتغيير العملية السياسية وإقامة حكومة وطنية تستند على الكفاءات الحقيقية والخبرات العراقية. اذ لم يخرج السوداني عن طريق المحاصصة الضيقة بل ظهر ان الأسماء التي اختارها هو والأحزاب الإسلامية تعتمد على علاقات اسرية وولاء شخصي وعقائدي مهلل. اما الأخطر فهو دخول الميليشيات واعضائها الى الحكومة في سابقة هي الأولى ومنهم من الفاسدين المعروفين الذين نشرت صحف العالم وقنواته سرقاتهم للملايين وكانت فضيحة مدوية وآخرين يحملون شهادات وهمية لا تعترف بها قوانين الدولة العراقية ولا التعليم العالي المهدد بمثل هؤلاء بتدمير أكبر ليكون ذلك بداية لهيمنة مليشياوية على الحكم، وذلك في تناقض بين تصريح السوداني مكافحة السلاح المنفلت من جهة ودعمه لتطوير مؤسسات الحشد الشعبي وتجاهل مؤسسة الجيش الوطني من جهة أخرى ، فهل من المنطق والصدق مع البرنامج والوعود ان يبدأ رئيس الوزراء الداعي لمكافحة الفساد والسلاح المنفلت بتعيين اشخاص هم من الميليشيات أولا ومن ثم من الفاسدين المعروفة فضائح سرقاتهم محليا وعالميا ؟ ليس ذلك فحسب ، بل وبدل استحداث وزارات تعني بشكل عاجل بأوضاع الشعب العراقي وتلبية الخدمات الأساسية المحروم منها منذ عشرين عاما، استحدثت مناصب حكومية مكلفة للغاية ماليا وغير ضرورية مفصلة فقط لمجاملة هذا الشخص او ذاك.
لقد حذرت السفيرة الامريكية بوجود قائد قوات التحالف في حلف الأطلسي، رئيس الوزراء محمد شياع السوداني من اهمال مطالب الشعب العراقي وذكرته بمصير عادل عبد المهدي. فهل سيستمع السوداني لهذه النصائح ويقوم بتنفيذ بعض الإصلاحات التي ترى فيها السفيرة الامريكية صمام امان لاستمرارا عمليتهم السياسية المتهالكة؟ ليس من المستبعد رغم زبانية هذه الحكومة المكشوف توجهها وهدف احزابها في تقاسم المليارات ان يقوم رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ببعض الإصلاحات الخفيفة والسطحية التي لا تعالج جذور المشاكل المتراكمة واهمال التعاطي معها لكنه لن يتأخر في العودة الى جادة طريق المحاصصة والولاء
الضيقة.
ان عودة المحاصصة الولائية والحزبية والعائلية لتقاسم الكعكة العراقية سيكون سببا أساسيا لعودة ثوار وشباب العراق الى الساحات واستمرارهم بالاحتجاجات من اجل استعادة بلدهم المخطوف وإقامة حكم وطني وانشاء دولة عصرية حديثة مثل بقية دول العالم المتطورة. لقد أعاد شباب ورجال العراق وبعد تنسيق واسع يزيد على العام ونصف كتابة وثيقة جديدة تتضمن واحد وعشرين مطلبا هي عبارة عن برنامج عمل وطني وشامل مكتمل أساسه المواطنة وسيادة العراق لتغيير النظام الذي جاء مع الغزو والاحتلال الأمريكي الإيراني. انهم طموح وإرادة الشعب العراقي الذي خرج في 2019 بالملايين من شمال العراق الى جنوبه من اجل نصرة أبنائه وتحقيق المطالب، انهم الغالبية الوطنية التي وقفت وتقف اليوم ضد فئة لا تتعدى بضعة مئات تحتمي خلف الجدران الاسمنتية وخلف الحمايات الأمنية وبحماية خارجية، يكفي ان عقد جلسة للبرلمان تطلب إجراءات امنية هائلة وقطع للطرق وانزال القوات الأمنية المختلفة لتأمين هذا الانعقاد خوفا من الشعب العراقي ! ما تزال تشرين حاضرة في عقول العراقيين وخاصة الشباب الذين يحتضنون رموزها واحدا واحد حتى أصبحت مثلا لهم، زرع صفاء السراي وريهام يعقوب وكل الشهداء الاخرين بذورا اينعت زهورا وورودا كثيرة هي اليوم ترفع صور من اغتيل وقتل وغيب وسجن تعاهد العراق بالعودة مجددا لإنقاذه وتحريره !
المصدر: كتابات