قراءة في رواية: جدائل الصفصاف العطشى

أحمد العربي

عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول صدرت رواية جدائل الصفصاف العطشى، للكاتبة السورية المتميزة فريال العلي، هذا أول عمل روائي اقرؤه لها.

تعتمد الكاتبة في لغتها السردية على الخلط الناجح بين لغة المخاطب على لسان الراوية ولغة المتكلم على لسان بطلة الرواية ليلى.

يبدأ السرد من رصد حياة  ليلى ابنة مدينة منبج السورية التي تعمل مزينة للعرائس، حيث تستقبل يوميا عروسا او اكثر تجملها وتصفف شعرها وتجهزها لعرسها او خطوبتها او لمناسبات اخرى. ليلى التي درست الجامعة قسم التاريخ وتخرجت منه لكنها لم تعين في أي مدرسة، وانضمت إلى الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل، طبعا باستثناء من له واسطة أو من اذناب النظام. لذلك سارعت ليلى لان تقتطع غرفة من منزلها وليكون مكان التزيين للصبايا المقدمات على الزواج.

لم تكن حياة ليلى العائلية على ما يرام، فوالدها بعد زواجه من أمها الذي استمر سنوات وأنجبت منه عددا من الأبناء كانت ليلى أكبرهم. هجر الوالد البيت وتزوج من أخرى، وامتنع عن القيام بأي مساعدة للعائلة، مما دفع ليلى للعمل مبكرا في هذه المهنة لتؤمن لها ولأهلها لقمة عيشهم، وقد يحرجها والدها احيانا بطلب المال منها.

عانت ليلى انها كبرت وأصبح عمرها في أواسط العقد الثالث ولم تتزوج، وهذا يعتبر في عرف بلدهم ومن حولها أنها تأخرت بالزواج. كانت معاناتها كبيرة تختزنها داخل نفسها، تخاف من العنوسة، وتشتاق أن تكون زوجة وتُحب وان تجد من يحبها وتشبع نفسها وجسدها امومة وخصوبة. لكن ذلك لا يأتي بالتمني، ومازالت تنتظر.

كانت الثورة السورية التي حصلت في ربيع عام ٢٠١١م و امتدت الى كل المحافظات والبلدات السورية، مطالبة بالحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية، سلمية، لكن النظام المستبد القمعي السوري واجه التظاهرات والمطالب الشعبية بالعنف المسلح، دمر البلدات قتل مئات الآلاف وهجر الملايين من السوريين داخل سورية وخارجها. وبما أن الشعب السوري لم يرتض الاستكانة للظلم والعنف الوحشي، لجأ للسلاح للدفاع عن ثورته. ولان لكل دول العالم مصلحة ما في سوريا، لذلك تدخلت فيها مع الثورة وضدها، ولان النظام عجز في سنوات الثورة الاولى عن مواجهة الثوار وتحررت اغلب البلدات السورية والكثير من المدن ومنها منبج والباب والرقة وغيرهم. حصل ذلك رغم تدخل إيران وحزب الله اللبناني و المرتزقة الطائفيين الأفغان …الخ. ولم يعدل ميزان القوة ومنع سقوط النظام الّا تدخل روسيا بكامل قوتها العسكرية، خاصة الجوية، وعندما تم تحويل بوصلة التدخل الدولي من مواجهة النظام المجرم الى محاربة القاعدة وداعش التي ظهرت وقتها بقوة في الخارطة السورية والعراقية، وبدأت تحتل مواقع الثورة السورية المحررة ومنها منبج والرقة والباب وغيرهم من المدن السورية…

في هذه  الأجواء كانت ليلى تعيش في منبج هي وعائلتها ومن تبقى من أهل المدينة الذين لم يهربوا الى مناطق اقل عنفا او الى تركيا. كان أغلب المتبقين في المدينة هم من النساء والأطفال والكهول، لان الرجال والشباب كانوا ملتحقين بهذا الطرف او ذاك من أطراف الصراع الذي تحول الى حرب بالوكالة في سوريا. محمد اخو ليلى مجند اجباري عسكري منذ سنوات ومنع تسريحه، لا يزور أهله ، يخاف قادته من انشقاقه، اهله يتواصلون معه عبر الهاتف بشكل متباعد.

منبج مدينة تحررت باكرا في الثورة ولكن الردة التي قادتها داعش على الثورة جعلتها من المدن التي احتلتها. دخلت داعش ودخل معها هوسها الديني، وعدم عقلانيتها في طرح الإسلام كمعتقد و سلوك وعبادات، بحيث أدت بشكل مباشر للاساءة للاسلام، وحولته إلى دين ارهابي في منظور العالم، من بعد أعمالها الاستعراضية في القتل والذبح والتنكيل.

كانت ليلى بحكم دراستها للتاريخ وعبر قراءاتها المتنوعة، ومعاينتها لما يعيش السوريون ترى ظلم النظام وطائفيته وقمعيته وتحويل الشعب السوري الى قطيع مطيع يساق الى المسلخ كل حين. ليلى حادثت رأس النظام بينها وبين نفسها، متهمة له وموجهة النقد ومبررة ثورة الشعب السوري، ردا على مظالمه الممتدة لعقود.

رغم كل الظروف المحيطة بليلى ومن تبقى من أهل مدينتها وامها وعائلتها، بقي الهاجس الأساسي لها أن تجد لها زوجا تعيش انسانيتها وامومتها معه. وجاءها ما كانت تحلم به حيث وصل المسلحين الاسلاميين – داعش-  الى منبج واستولوا عليها. كان شابا أشقر جميلا يخدم قريبا من بيتها، لفت نظرها، وبدأت تحوم حوله، أنه حسن، شاب من حلب المدينة، التحق بالإسلاميين بعدما عايش ظلم النظام ووحشيته في مدينته حلب. يقسم حسن العالم الى قسمين: هم المسلمون الحقيقيون والباقين كفار. تعبت ليلى حتى دفعته ليخطبها ويتزوجها. وهكذا حصل وتعبت هي بعد ذلك لكي تخفف من غلواء اسلاميته وأن تنزع من نفسه هوس الحرب على المختلفين عقيدة وان تفصل في ذهنه بين العقيدة انّا كانت وبين رد المظالم، وأن تبعد عن ذهنه اولوية الشهادة، بل أولوية الحياة، والشهادة هي الحل الأخير في مواجهة الظلم وهدر الإنسان وحياته. خاصة بعدما حملت بطفلها الأول وولدته، وحملت بطفلها الثاني، صارت حريصة عليه وتريد ابعاده عن جماعته المسلحة حفاظا على اسرتها، انها تراه قتيلا ولوبعد حين، تخاف ان تفقده وتيتّم أطفالها. استطاعت التأثير عليه فكريا، لكنها لم تنجح في زعزعته عن اعتقاده وإصراره على القتال حتى الشهادة. عاشت معه اياما جميلة، تجوّل معها في أرجاء دولتهم الاسلامية، اخذها الى العراق وصلوا الموصل. كانت بشوق الى العراق، وهي ابنة الفرات. ترى نفسها وروحها اقرب للعراق.

 بدأت تتغير موازين القوى الدولية وأصبح زوجها ومن معه تحت نيران القوى الدولية المحاربة للارهاب التي تداعت من كل حين، استنفذ التحالف الدولي كل طاقته واستعمل أسلحة نوعية جديدة . قارنت ليلى ما حصل في سوريا وما حصل في العراق التي كانت تدكّه أمريكا  في عقود حتى احتلاله.

كانت منبج منذ تحريرها من سيطرة النظام تحت نيرانه الدائمة قصف بالطيران والبراميل المتفجرة، جعلت الحياة مستحيلة والقتلى والجرحى والمصابين يتجددون ويكثرون كل يوم. ثم جاءتها داعش ومعها وحشيتهم التي جعلت حياة الناس جحيما من الداخل بيد داعش ومن النظام وحلفائه إيران وروسيا من الخارج. ثم جاء التحالف الدولي الذي تفنن بجميع انواع الاسلحة وحول الحياة إلى جحيم. كان زوج ليلى ينتقل بين المنبج ومدينة الباب يرابط على الجبهات في مواجهة النظام والجيش الحر. لكن نيران التحالف الدولي المنصبة على داعش في العراق وسوريا، جعلتها تنهزم وتنهار. سلاح يصل لادق الاماكن، يحرق المقاتل ويذيبه، يطارد عرباتهم، لا يترك أحدا منهم أحياء.

لحقت ليلى بزوجها إلى مدينة الباب لكن الأحوال ساءت. عادت الى منبج، وعلمت بعد وقت بموت زوجها في مدينة جرابلس في الوادي السحيق بقصف فسفوري من التحالف الدولي، ذهبت الى هناك شاهدت العجب والمذبحة التي صابت المقاتلين وحولتهم الى جثث لا تجد من يواريها التراب.

عادت ليلى ارملة ولديها طفلين يتيمين، عادت للعيش مع أمها رغم سوء العيش وهناك تعرفت على أحدهم ادعى انه احبها وان زوجته تركته وهربت بأولاده الى تركيا، تزوجها وبعد اشهر تركها وغادر ملتحقا بزوجته، تاركا في رحمها طفل جديد، تركها على وعد بالعودة او ان يدعوها لتذهب وراءه، كان كاذبا.

عادت ليلى مرة اخرى الى منبج وقد تغير الحال بعد مضي سنوات على الثورة السورية، انتهى تواجد داعش وهاهم ال ب ك ك بفرعهم السوري حزب الاتحاد الديمقراطي الـ ب ي د الذين كانوا حلفاء أمريكا في المنطقة في ملاحقة داعش يسيطرون على الشمال الشرقي السوري وشرقي الفرات، صانعي ما سمي بقوات سوريا الديمقراطية. معلنين دولتهم الانفصالية الكردية في سوريا حيث تواجدهم باسم روج آفا.

لم يستوعب الناس ممن بقوا في منبج هول ما حصل معهم و حولهم. لم يبق إلا النساء والأطفال والكهول، حياة من الجحيم يعيشونها، عادت ليلى إلى أمها ومن بقي من نساء الحي، التجمع وتبادل الأحاديث وسرد لوعتهم ومصابهم جميعا. ومما زاد من مصيبة ليلى وأمها هو التحاق أخاها بال ب ي د، وهو لم يتجاوز السادسة عشر من عمره، رغبة في حمل السلاح يتصرف كمراهق، وحتى يؤمن مصروفه اليومي، هو ككل الشباب الذين تصرفوا في السنوات السابقة، التحقوا بالقوى المسلحة ليجدون ذاتهم ويؤمنوا معيشتهم، ليجدوا أنفسهم قتلا في معركة القوى الدولية التي تلعب لعبتها في سوريا.

جاء اخيها مقتولا، سلمته ال ب ي د لاهله على انه شهيد، وزادت مأساة ليلى وامها ألما جديدا بمقتل أخيها…

تنتهي الرواية باستمرار عيش ليلى وأمها وبعض الأسر المجاورة لهم في مدينتهم منبج يعيشون على الكفاف وينتظرون يوما اقل سوء من السنوات التي مرت عليهم .

في التعليق على الرواية اقول:

نحن أمام رواية جديدة تنضاف للكثير من الروايات التي تابعت الثورة السورية وما بعدها في السنوات السابقة، مطلة هذه المرة على واقع مدينة منبج والمدن المجاورة لها، متابعة لكل التطورات التي عاشتها، سياسيا وحياتيا، بتمازج ناجح بين الحياتي الذاتي والمعاش العام.

 بالطبع إن الرواية نسوية بامتياز من حيث أن المرأة وعالمها وهواجسها وما تعيش هو محور الرواية وروحها، ولو أن ذلك لا يقلل من العام المعاش، لكن الاطلالة عليه كان من خلال المرأة كيف عاشت وتابعت وأصبحت ضحية كل ما حصل. ظلم النظام، أحلام الثورة، ظلم داعش، جبروت الغرب وعنفه، انفصالية ال ب ي د، وتحول كل ذلك لمآسي تعيشها النساء الارامل والعوانس والأطفال اليتامى المشردين داخل البلاد وخارجها. الحساب الختامي للحرب هو مقتلة للناس العاديين، الذين تحولوا الى وقود لمعارك النظام وحلفائه و القوى الدولية في بلادنا وعلى حساب دماء وأرواح شعبنا.

قاربت الرواية موضوعا مهما آخر ايضا وهو محاولة استثمار الدين في السياسة كأحد أهم أدوات تجييش الناس في الحروب التي تحتاج إيمان وعقيدة واستعداد للتضحية ليذهب الشباب للقتال والقتل والموت ، والحساب الختامي مأساة. النظام دافع عن ظلمه بادعاء عقائد قومية ومقاومة، وكذلك حلفائه الايرانيين وحزب الله الطائفي والمرتزقة التابعين لهم، وكذلك داعش وغيرها… كلهم تدرعوا بادعاءات عقائدية إيمانية ليقتلوا ويُقتلوا ويعيشون احساس أصحاب الرسالات وهم في الحقيقة قتلة جاهلون أو مأجورون.

اخيرا وبعد سنوات الثورة تكون هذه الرواية وأمثالها شهادة تجعل ما حصل حاضرا كل الوقت شهادة للتاريخ، و إدانة للنظام وحلفائه، ووصمة عار على جبين العالم الذي حارب الإرهاب متمثلا في داعش وترك النظام صانع داعش وأسّ المظلومية في سوريا منذ عقود.

العالم الساكت عن مقتل أكثر من مليون إنسان سوري ومثلهم مصابين ومعاقين، المسؤول عن ترحيل الملايين من السوريين داخل سوريا وخارجها. وتدمير سوريا وزرع الاحتلالات فيها.

كل ذلك لان السوريين طالبوا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل.

ومازالوا يطالبون بهذه الأهداف رغم كل التضحيات، لانها حقوقهم الانسانية التي لا يمكن التنازل عنها  .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى