طغت في الأيام الأخيرة، أخبار وصور، إجراءات ترحيل المهجرين السوريين من لبنان إلى وطنهم الأم، سورية، على ماعداها من قضايا تستحوذ على اهتمام السوريين وتفكيرهم، وتشغل بالهم في سؤالهم الدائم عن مستقبلهم ومصيرهم، وإنهاء معاناتهم التي تتخذ أشكالاً لا تعد ولا تحصى.
لقد غطت أخبار الترحيل القسري، في الأيام الأخيرة، على متابعة نتائج ماحصل في الشمال السوري الخارج عن سلطة نظام القتل والاجرام في دمشق، والترتيبات الحاصلة هناك، بعد خلط الأوراق في صراعات الفصائل والمليشيات على اقتسام الغنائم والسلطة، والتي يدفع ثمنها الأبرياء ممن هجروا من مدنهم وقراهم رفضاً للحياة والعيش تحت سلطة عصابة آل الأسد، بعد أن بقيت لأيام وأيام تحبس أنفاسهم، وتفرض عليهم أسئلة وأسئلة عن حالهم، وما الذي ينتظرهم، أو تخبئه لهم الأيام القادمة في لعبة الدول والأمم، وأدواتهما.
جاءت قرارات الترحيل، المتوقع أن تستمر خلال الأسابيع القادمة، بعد موجات من التعبئة والعداء والتمييز، بل والعنصرية، التي طالت هؤلاء، ووقفت خلفها أطراف السلطة اللبنانية الحاكمة، وامتداداتها الطائفية والمذهبية المتحالفة مع نظام الأسد، والمتورطة بالدم السوري، دون مراعاة لأدنى قيم حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية بخصوص اللاجئين والفارين من مناطق النزاع، والحروب في العالم.
يأتي ذلك كله في سياق تحميل اللاجئين في دول الجوار السوري، الذين طال أمد إقامتهم على أراضيها، وزر فشل سياسات تلك الدول الاقتصادية والاجتماعية، ومحاصصاتها الطائفية، أو تحولها لورقة مقايضات إقليمية تفوح منها روائح الفساد المالي والأخلاقي، أو التنافس الحزبي والصراع على السلطة بخلفيات أيديولوحية وسياسية.
عمليات ترحيل اللاجئين الجارية، وبمعنى أدق المهجرين قسرياً، تتم بشكل مخالف للارادة الدولية التي كانت واضحة في مواقفها بعدم توفر “البيئة الآمنة” لعودة هؤلاء إلى بيوتهم، كما في بيان الاتحاد الأوربي الأخير بهذا الشأن، مما يشكل انتهاكاً صارخاً إضافياً تتحمل هذه الدول مسؤوليته، ومعها المجتمع الدولي بعدم اتخاذه إجراءات رادعة، والمنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية، ومؤسسات المعارضة السورية المنوط بها، أو هكذا يفترض، شؤون السوريين، التي لم تستطع وقف هذه السابقة الدولية، وثني هذه الدول عن قراراتها، ومراجعتها، بما ينسجم مع الاتفاقيات الدولية والسياسات الأممية بهذا الخصوص.
غير بعيد عن ذلك الاجراءات القاسية المتخذة بحق المهجرين قسراً في بعض دول الجوار الأخرى، غير لبنان، والتضييق على حريتهم، وحركتهم في التنقل والإقامة، وكلها سياسات ناتجة عن تغيرات فرضتها تبدلات السياسة والمصالح، بعد عجز المجتمع الدولي، أو تقاعسه، عن إيجاد حل شامل للقضية السورية التي زادت عن عقد من الزمان.
الاجراءات المتخذة والمضايقات والتهديد الدائم بالترحيل، قبل أن تتحول واقعاً وممارسة على مرأى ومسمع من العالم، التي اتخذتها وتتخذها دول الجوار السوري المستضيفة للمهجرين قسراً هي التي دفعتهم إلى ركوب زوارق الموت مع معرفتهم المسبقة بمخاطرها، كما حصل مع القارب الكبير الذي أبحر من طرابلس/ لبنان قبل أشهر، وكما حصل مع عشرات القوارب الصغيرة التي غادرت من تركيا باتجاه اليونان ولقيت ما لقته من خفر السواحل اليونانية، والذي فتح تحقيق أوربي في ممارساتها التي أدت إلى موت العشرات، وفي كل ذلك مسؤولية أخلاقية وسياسية وإنسانية تتحلل منها هذه الدول ولا تترك فرصاً للسوريين إلا باختيار طرق موتهم التي يفضلونها، في أقبية الأسد، أو بحار الموت، أو جراء العنصرية المتصاعدة، ومابين كل ذلك حرق مخيماتهم، أو الاعتداء على بيوتهم وحرماتهم، واستغلالهم في عرقهم وجهدهم وعملهم دون أي ضمانات قانونية، مهما قيل في ذلك، أو الموت برداً مع كل فصل شتاء.
تفكيك مخيم عرسال على الحدود اللبنانية_ السورية وترحيل المهجرين من هناك بشكل جماعي مهما قيل بخصوصه، أيضاً، عن دوافع ذاتية لهؤلاء، وبإرادتهم الحرة، وعن “تسويات” قاموا بها عبر لجان “مصالحة” أو مختصة هي محض كذب وافتراء، وتدخل المنظمات الدولية في اللحظات الأخيرة وتزويدهم بأرقام هواتف خاصة للشكوى مما قد يلاقونه، كلها لا تغطي على الحقيقة المرة فهولاء ضاقت بهم الأرض ونالهم من الجور والظلم والضغوط ما لا قدرة لهم به على الاحتمال، وهم ذاهبون للمجهول ويتملكهم الخوف على مصيرهم في ظل نظام لا يؤتمن، ولا يلتزم بوعد أو كلمة، والشواهد كثيرة في مناطق (التسويات) المفروضة في أكثر من مكان.
إن المخاطر الناتجة عن عودة هؤلاء، أو بعضهم كبيرة، وكبيرة جداً، عدا عن بطش النظام وتنكيله بهم، فقدانهم لأدنى مقومات الحياة في ظل الوضع الإنساني والاجتماعي والاقتصادي المزري، الذي لا يحتمل ولا يطاق.
إننا من هذا المنبر الوطني نحذر من العواقب الوخيمة الناتجة عن إجراءات الترحيل من دول الجوار السوري باتجاه الداخل الوطني، دون تسوية حقيقية وشاملة للقضية السورية تعيد للإنسان السوري كرامته وأمنه واستقراره.
السوري مرة يهجر وأخرى يُرحَّل، وفي كل الأحوال يدفع ضريبة حريته وتقاعس العالم عن الوفاء بواجباته المنوطة به.