جذور الانحراف في الفكر الاسلامي – 2 ||  سيادة التشدد في الفكر الاسلامي

معقل زهور عدي

بدأت مظاهر التشدد في الفكر الاسلامي مترافقة مع الصراعات السياسية الداخلية التي حاول فيها كل فريق سحب الاسلام لصفه ودمغ الفريق الآخر بالكفر, فالخوارج ظهروا من خلال صراع سياسي على الحكم وليس من خلال معارك فكرية بعيدة عن مسائل السلطة , ومن لحظة انشقاقهم السياسي توالدت لديهم الأفكار التي لبست لبوس الدين , فعقيدتهم في تكفير مرتكب الكبيرة  والحكم بخلوده في النار منشؤها إرادة تكفير معاوية بن أبي سفيان ووضعه في خانة واحدة مع أعداء الاسلام , وتكفيرهم لعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب منشؤه الاعتراض على مواقفهم في الصراعات السياسية التي نشأت بعد وفاة عمر بن الخطاب , فكما في السابق نرى بوضوح هنا أيضا قلب الموقف السياسي إلى موقف ديني عقائدي .

لكن التشدد يجر بعضه بعضا فما بدأ بتكفير عثمان وعلي ومعاوية انتهى بتكفير كل المسلمين الذين لايرون تكفيرهم , بل واستحلال دمائهم وأرزاقهم .

صحيح أن الخوارج  قد تضاءل حجمهم وتأثيرهم في المجتمع الاسلامي مع الزمن , لكن من الخطأ اعتبار أنهم لم يتركوا بصمتهم في الفكر الاسلامي بعد أن ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس حتى إن الخليفة عمر بن عبد العزيز طلب محاورتهم ليكفي الدولة مؤونة الصراع المسلح وسفك الدماء , وكاد أن يصل لهدفه لولا أن توفي باكرا قبل استكمال الصلح .

عرف الخوارج بالشجاعة في القتال , والفصاحة والشعر , ومنهم واحد من أشهر شعراء العرب وهو قطري بن الفجاءة , وقصيدته مشهورة جدا وفيها يقول مخاطبا نفسه : أقول لها وقد طارت شعاعا …من الأبطال ويحك لن تراعي

                فإنك لو سألت بقاء يوم  ……على الأجل الذي لك لن تطاعي

                 فصبرا في مجال الموت صبرا ..فما نيل الخلود بمستطاع

                وماثوب البقاء بثوب عز ….فيطوى عن أخي الخنع اليراع

                   سبل الموت غاية كل حي ….وداعيه لأهل الأرض داع

ورأيهم في الخلافة يستحق وقفة تأمل , فهم بخلاف الشيعة والسنة لايعتقدون بالإمامة في الحكم ولا بما ذهب إليه السنة من قبول حكم الغلبة , بل بالبيعة والاختيار وهي حق لكل مسلم ليس حسب جنسه ونسبه بل حسب جدارته ورضى المسلمين بحكمه لهم .

وقد تم طمس آرائهم في الحكم تحت الاستنكار المحق لتشددهم في الدين .

أعود للقول إن تشدد الخوارج لم يمر دون أن يدفع الفكر الاسلامي نحو التشدد وقد ظهر ذلك لاحقا في نهاية العصر العباسي .

مواجهة العقلانية في الفكر الاسلامي

مع نهاية العصر الأموي ودخول الخلاف السياسي على الحكم إلى الفكر الاسلامي كأحد مكوناته الرئيسية خاصة مع الثورة العباسية التي بدأت بسفك الدماء وأعمال ثأر وانتقام بالغة القسوة والعنف , لكن شيئا فشيئا ومع استقرار الحكم والانفتاح على الأفكار الواردة من كتب اليونان وفارس والهند , دخل الفكر الاسلامي في مرحلة جديدة , وبدأت مظاهر العقلانية المرافقة للثقافة والتسامح في الحوار بين شتى التيارات الفكرية , لكن ربيع الفكر الاسلامي لم يمتد لفترة طويلة .

في فجرها الخجول حاولت العقلانية العربية أن تشق طريقها نحو الوجود مع أهل الرأي الذين بدؤوا في استخدام الأدوات المنطقية في حقل الفقه في بداية القرن الثاني للهجرة ( أبو حنيفة النعمان )  , وكانت حجتهم في ذلك أن رواية الحديث موضع ظن طالما أن تناقلها قد جرى شفهيا , وعبر فترة زمنية مديدة , وأن ماهو موضع ظن لايمكن أن يستند إليه بصورة قاطعة يقينية , بالتالي لابد من إعمال الأدوات العقلية المنطقية من أجل استنباط الأحكام الفقهية اعتمادا على ماهو يقيني , وهو القرآن الكريم . مع تعديل لم يكن منه بد في الإستناد إلى بعض الأحاديث , وما تناقله الناس في المدينة عن جيل الصحابة من وصف لهيئات العبادات والطقوس ( الشعائر ) الإسلامية التي عرفت عن الرسول (ص) من صلاة وصيام وحج وما إلى ذلك .

لم يهمل تيار أهل الرأي الحديث , لكنه جمع بينه وبين الأدوات العقلية , بالتالي فالحديث مصدر للأحكام إن وافق مدلولات الآيات القرآنية وانسجم مع مقاصدها , وإن لم يتناقض مع حديث آخر , أو يحمل عوامل ضعف في روايته .

ومال أهل الرأي إلى إعمال القياس في الأحكام حين واجهتهم مشكلات زمنهم المتغير , وانفتاح الاسلام على بلدان واسعة وشعوب متعددة وثقافات مختلفة وعلاقات اقتصادية ومالية لم يواجهها الإسلام في مكة والمدينة في عهد الرسول (ص) .

عمل أهل الرأي ضمن التيار العريض للإسلام الذي تحول لاحقا إلى ماسمي بأهل السنة والجماعة , وظل تيارهم معترفا به باستمرار , فلم توجه له سهام الاتهام بالخروج عن الإسلام كما وجهت للمذاهب الأخرى , وإنما كان موضع نقد يخف تارة ويشتد تارة أخرى .

لكن نهاية القرن الثاني للهجرة وبداية القرن الثالث حملت معها تخامدا تدريجيا لذلك التيار .

ولذلك أسبابه التي سنأتي على دراستها بشيء من التفصيل , وشيئا فشيئا استسلم تيار أهل الرأي لتيار أهل الحديث الذي واجه بالنقد مسألة إعمال العقل في (النص) والنص هنا ليس القرآن وإنما الحديث حسب ظاهره , ونظرا لنهوض “علم الحديث ” نهضة عملاقة على يد البخاري ثم تلميذه مسلم وباقي أئمة الحديث كالترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل , فقد ظهر وكأن ” علم الحديث ” قد أغلق على أهل الرأي حجتهم حين وضع أمامهم آلاف الأحاديث المنتخبة بعناية فائقة والتي تغني عن التفكير والقياس والاستدلال .

لقد تمكن أئمة الحديث من انتزاع اعتراف واسع بصحة الأحاديث التي جمعوها وقاموا بتدقيقها بجهود ضخمة وفق أدوات منهجية لايمكن الاستهانة بها رغم أن تلك الأدوات لم تكن كاملة قط , وهكذا قدم ” علم الحديث ” نفسه بديلا عن رأي أهل الرأي , فحيثما هناك نص “حديث ” فلامبرر للرأي . وفي الواقع العملي فقد كان ذلك يعني نزع سلاح أهل الرأي , وتحييدهم .

وبذلك ماتت أول بذرة للعقلانية العربية نشأت داخل التيار الإسلامي العريض .

ونأتي على البذرة الثانية وهي المعتزلة .

فبعد ترجمة كتب الفلاسفة اليونان للعربية في بداية العصر العباسي , وكثير من الأفكار والفلسفات من فارس والهند وغيرها , واطلاع الناس على ثقافات متنوعة , وأديان مثل الزرادشتية والمانوية , أصبح من الضروري الدفاع عن الإسلام بأسلحة العصر وثقافة العصر , وإلا فالاسلام سيقف عاجزا أمام تلك التيارات الهادرة الآتية من كل حدب وصوب , مما يهدد في اجتياحه وهدم أسسه وقواعده .

من هنا نهضت جماعة إسلامية استفادت من الفلسفة اليونانية لبناء أسس عقلانية للمفاهيم الإسلامية , ولكونها استخدمت سلاح المنطق والفكر , فقد اتصفت بالنخبوية , وواجهت الفكر الإسلامي التقليدي الذي استطاع تجنيد الشارع ضدها , ولاحقا تجنيد السلطة السياسية إيضا , ورغم أن تجربتها كانت أعمق وأوسع من تجربة أهل الرأي , لكنها لم تستطع الاستمرار في الحياة في حين أن المجتمع العربي كان بحاجة ماسة للحماسة الدينية لصد الهجمات الخارجية بعد أن ضعفت الدولة العباسية .

وبينما يترافق التطور في الفكر مع الحضارة والشعور بالسلام , فإن الشعور بالخطر وعسكرة المجتمع تترافق دائما مع العودة للمسلمات القديمة , والحماس الديني العاطفي . ومحاربة الأفكار الجديدة التي لاتتفق مع معتقدات الجمهور .

صحيح أن المعتزلة لم يتم تكفيرهم بصورة قطعية , لكنهم كثيرا ما نظر اليهم الفكر الاسلامي التقليدي بوصفهم انحرافا عن جادة الإسلام , واقحاما للإسلام النقي الأصلي بميدان لاناقة له فيه ولاجمل , فما حاجة الإسلام للتفلسف ؟

ومثل تلك النظرة التي تبدو بريئة ومقنعة , كانت تعني في الواقع حجب الإسلام عن الفلسفة بصورة تامة , بل ووضعه على عداء معها , وذلك كان كافيا لجيش لاحدود له من رجال الدين المحافظين الذين أغلقوا على الإسلام كل النوافذ , مما أسفر عن سيطرة البدع والخرافات والأساطير , وأفسح المجال واسعا أمام كل الأفكاروالممارسات غير العقلانية التي شوهت الاسلام وأغرقت روحه الأصلية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى