رغم المماطلة الدولية.. «الجرائم لا تموت بالتقادم»

عبد الباسط حمودة

تمر الذكرى المشؤومة الـ 52 لتسلط عصابة آل أسد على سورية وشعبها ومقدراتها الشهر القادم، بما فيها 11سنة بعد انطلاق الثورة، وسوريتنا تُذبَح ببطئ على أيدي هذه العصابة المجرمة وحلفائها وضامني عدم محاسبتها بجميع الجرائم التي نفذتها تحت ذرائع مختلفة منها الطائفية ومحاربة الإرهاب والحفاظ على ما أُطلقوا عليه شرعية وهيبة الدولة!، ولكن هذه الذرائع أدت وتؤدي لنتيجة واحدة وهي قتل الشعب السوري على مدى 5 عقود ونيف وسطَ صمتٍ دولي كامل، بل رعاية دولية ممنهجة للتهرب من المحاسبة على جرائمهم غير القابلة للحصر داخل وخارج سورية؛ ذلك أدى لتبديد جميع الموارد السورية ثم إجهاض ثورتنا العظيمة وقتلها، ساهم معهم بنفس الوقت كل أصناف (المعارضات) السياسية والفصائل المسلحة الذين باعوا الثورة وارتهنوا لأجندات خاصة وأجنبية غريبة عن الثورة وشعبها ومطالبها النقية وشعاراتها الشعبية الوطنية «الشعب السوري واحد» و«سورية بدها حرية» و«آزادي (الحرية)» و« لا أخوان ولا سلفية» وغيرها من الشعارات الجميلة التي تعكس بعمق مصلحة السوريين بكل مكوناتهم، وذلك بالرغم من بطش النظام وتحشيده الطائفي وبالرغم من التنظيمات الإرهابية التي ظهرت بشكل موازِ تقريباً للثورة من أجل تشويهها ومحاربتها، وتُقدمُ خدمات كبيرة لعصابة آل أسد وحلفائهم.

إنّ وحشية هذه العصابة وأفعالها تعجز الوحوش الكاسرة عن مجاراتها، فعمدت لمنهجة أسلوبها الُمتوحش المُتجذّر والمُترسّخ فيها للسيطرة على سورية وشعبها، والتعامل مع المحيط الإقليمي، فأدارت عملية توحشها حسب مصالحها عبر ترسيخ التوحش في كل سورية (حماه، جسر الشغور، حلب .. الخ) أواخر القرن السابق والسيطرة على لبنان والفصائل الفلسطينية، ومساعدة القتلة أمثالهم في السودان والجزائر وليبيا وإيران، وصولاً لاستقدام ميليشيا طائفية لمساعدته في جرائمه.

فهل خدع نظام آل أسد العالم مجتمعاً، كي يتهرب من المحاسبة على جرائمه ومجازره ومعاقبته عليها وفق القانون الدولي! وصولاً لاستخدامه البراميل والطائرات لقتل الشعب فضلاً عن تجريبه السلاح الكيماوي في المعتقلات خلال الثمانينات والتسعينات، إضافة لقصف الغوطتين (الشرقية والغربية) في 13 آب/ أغسطس 2013؟ ومع ذلك استمر بعدها بقصف المناطق السورية عشرات المرات بالكيماوي، فضلاً عن الاستمرار بإنتاج معدات ومواد السلاح الكيماوي القاتل!، ألم يكن ذلك كله لتهاون المجتمع الدولي معه طيلة عقود؟ أم أنها سياسة دولية للتخلص من الشعب السوري ولمصالح دولية، خشيةَ روحهِ وإرادته الثورية، وحرصاً على الكيان الصهيوني المشارك لآل أسد في مخططاته ونهجه؟

ألم نُخدَع من مجلس الأمن وواشنطن باتهامهم نظام العصابة الأسدية بـ«إخفاء» مخزونها الكيماوي؟ فهل هناك نقص في المعلومات والبيانات لديهم؟ أم من فرط معرفتهم بمخزونه الكيماوي- الذي أُنشئ بمعرفتهم ومساعداتهم- يشترون الوقت من جديد كي يعيدوا تدويره وتأهيله؟ أليست المطالبات الأممية للعصابة بتوضيحات حول برنامجها ومخزونها الكيماوي ما تزال بلا رد؟ ولماذا؟

إن ملف الأسلحة الكيماوية في سورية كان محور عدة جلسات لمجلس الأمن، وأن تقريراً لصحيفة «لوموند» الفرنسية كشف كيف ظلّت سلطات العصابة تتحايل على اتفاق تفكيك ترسانتها الكيماوية، بإخفاء الأسلحة تارة والقضاء على موظفين ’’مشبوهين‘‘ مزعومين باستيراد سري! لعقاقير الأعصاب تارة أخرى؛ ففي تقرير مشترك لـ’’بنيامين بارت‘‘ و’’ستيفاني موباس‘‘، أشارت الصحيفة لبدء تمزق حجاب الغموض الذي كان يُخفي برنامج الأسلحة الكيمياوية للعصابة الأسدية، والذي سمح له بالإفلات من التزاماته تجاه المجتمع الدولي؛ فهل هذا فعلاً غموض أم مزيد من المُهل للمجرم الكيماوي؟

أوضح كاتبا التقرير أن منظمتين غير حكوميتين بطليعة الكفاح ضد الإفلات من العقاب في سورية، وهما ’’مبادرة عدالة المجتمع المفتوح‘‘ و’’الأرشيف السوري‘‘قدمتا تقريراً لهيئات تحقيق وطنية ودولية، يُظهر بعمق ودقة كيفية عمل هذا البرنامج الكيماوي، الذي تسبب في قتل مئات المدنيين منذ عام 2011؛ وهذه الوثيقة المكونة من 90 صفحة، التي حصلت كل من “لوموند” و”واشنطن بوست” و”فايننشال تايمز” و”زود دويتشه تسايتونغ”، على نسخة حصرية منها، كشفت كيف تلاعبت سلطات العصابة الأسدية في دمشق بمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية التي كان يُعتقد أنها قامت بتفكيك الترسانة الكيماوية السورية، ويستند التقرير لتحليل المصادر المفتوحة، واستخدام بيانات مستمدة من سجلات الأمم المتحدة، وشهادات حوالي 50 مسؤولاً سورياً ممن انشقوا عن النظام المجرم بدمشق، بعد أن كانوا يعملون في “مركز الدراسات والبحوث العلمية”، وهو الوكالة الحكومية المسؤولة عن تطوير الأسلحة السورية التقليدية وغير التقليدية.

أوضحت هذه المصادر بنية هذا المجمع الصناعي العسكري غير المعروفة للكثيرين، والحيل التي لجأت إليها سلطات العصابة لتضليل محققي منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، واعتماد هذه الحيل على نقل جزء من المخزون والمواد الفتاكة لقواعد الحرس الجمهوري، وعلى المطاردة والسجن والتخلص في بعض الحالات من الموظفين المشتبه فيهم، وعلى إنشاء قناة سرية لاستيراد المنتجات التي تدخل في تكوين غازات الأعصاب مثل السارين، وذكرت الصحيفة بأن غاز الأعصاب هو الذي استُخدم عام 2013 في الغوطتين، وأدى لمقتل 1200 من سكانهما اختناقاً، وقالت: ’’اليوم يساعد هذا التقرير- الذي يغوص بشكل عميق في ألغاز مصنع الموت السوري- في فهم السبب‘‘، الذي أبقى الشك بأن النظام لم يتلف كامل أسلحته النووية.

وتقول «تستيف كوستاس» من ’’مبادرة عدالة المجتمع المفتوح‘‘ أن أبحاثهم ’’تُظهِر أن سورية لديها برنامج قوي للأسلحة الكيماوية، وعلى الدول الأعضاء بمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية محاسبتها على انتهاكاتها المستمرة لاتفاقية الأسلحة الكيماوية‘‘؛ وبعد 3 سنوات من العمل، تم إرسال التقرير إلى 5 مؤسسات مختلفة هي: ’’فريق التحقيق وتحديد الهوية‘‘ التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، و’’الآلية الدولية المحايدة والمستقلة‘‘ وهي هيكل منبثق من الأمم المتحدة يجمع الأدلة على الجرائم المرتكبة في سورية، و’’وزارة العدل الأميركية‘‘، و’’مكتب التحقيقات الفيدرالي‘‘، و’’المدعي العام الاتحادي الألماني‘‘ الذي تلقى شكاوى ضد نظام العصابة على صلة بالهجمات في الغوطتين وخان شيخون؛ وبحسب التقرير، فإن البرنامج الكيماوي السوري بدأ تحت إشراف مخابرات القوى الجوية منتصف الثمانينيات بالمجمع (المركز) المذكور، ويمثل متاهة من الفروع والمعاهد والوحدات التي تُظهر الحرص على التقسيم منعاً للتسرب والاختراق، ومع أن مهمة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية بدأت عام 2013، فإنه ظل قادراً على الإخفاء والتضليل والممانعة حتى اليوم، وأحدث ما كشفه التقرير هو آليات تزويد المركز بالمواد الكيماوية، حيث اكتشف المحققون بفضل قاعدة بيانات ’’كومتريد ‘‘ (سجل تجاري ضخم تحتفظ به شعبة الإحصاءات بالأمم المتحدة)، أنه بين عامي 2014 و2018، تم تصدير 69 فئة من المنتجات إلى سورية التي يُحتمل أن تخضع للعقوبات من 39 دولة، بينها 15 دولة أوروبية، وتضم بشكل أساسي سلائف السارين، وحددت ’’مبادرة العدالة للمجمع المفتوح‘‘ و’’الأرشيف السوري‘‘ شركاتٍ مقرها بلجيكا وألمانيا وهولندا وسويسرا تواجه عقوبات قانونية لقاء ذلك!

وهذا ’’إليوت هيغنز‘‘ المعروف على مستوى العالم بـ’’براون موسز Brown Moses‘‘، إنه الرجل الذي تطوع بدون مقابل، بتوثيق أدلة استخدام الكيماوي وإجرام عصابة آل أسد الإرهابية! ‎بحسب تقارير صحيفة ’’نيويورك تايمز‘‘ الأميركية وصحيفة ’’ذا غارديان‘‘ البريطانية، ومن ‎أمام شاشة كمبيوتره، يتابع ويحلل الفيديوهات التي يبثها الثوار السوريون على الشبكة العنكبوتية، ‎ويعيد ترتيبها وفق تاريخ ومكان الأحداث بقاعدة بيانات تعتبر مرجعاً مهماً للمواجهات بين الشعب الثائر وبين العصابة الأسدية الإرهابية، التي لم تتورع عن استخدام أيٍ من أسلحة ترسانتها في تلك المواجهات، بما في ذلك السلاح الكيماوي! ‎وفي معرض تحليله لمجزرة الكيماوي التي نفذتها عصابة آل أسد ‎يؤكد ’’هيغنز‘‘ أن الثوار لا يستخدمون هذا النوع من القذائف الصاروخية M14، بينما تم توثيق استخدام صاروخ مجهول في هجوم كيماوي شنته عصابات آل أسد على منطقة عدرا قرب دمشق في 5/8/2013، وأن ’’‎سي جي تشيفرز‘‘ المراسل الحربي لصحيفة “نيويورك تايمز” يقول عن ’’براون موسز‘‘: “الكثير من الناس، سواءً اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا، يُدينون بالفضل في عملهم اليومي لمدونة ’براون‘ وإلى ما تضعه من تحليلات للفيديوهات”؛ ‎إضافة لمساهمته التطوعية المذهلة في تثبيت مسؤولية عصابة آل أسد عن مجزرة الكيماوي، فإن أهم ما قدمه ’’هيغنز‘‘ للثورة السورية في سياق ملاحقته للأسلحة التي تستخدمها العصابة في حربها على السوريين، يتلخص بأنه كان أول من تابع قضية استخدام القنابل العنقودية من قبل عصابة آل أسد وقام بالتحقق قبل نشر الموضوع على مدونته، مقدماً قاعدة بيانات لمقاطع الفيديو عن القنابل العنقودية المستخدمة في جميع أنحاء سورية، جنباً إلى جنب مع خريطة المراجع وتفاصيل أنواع الأسلحة المستخدمة؛ وقد رصد القنابل العنقودية لأول مرة في صيف العام 2012، واستخدامها واسع النطاق بدءاً من شهر تشرين الأول/ اكتوبر 2012، وحاولت العصابة أن تنفي استخدامها لهذه القنابل لكنه قابلهم بقاعدة بيانات ما يقرب من 500 تسجيل فيديو توثق استخدام القنابل العنقودية المُحرمة دولياً؛ ‎وقام بتقديم تقارير عن البراميل المتفجرة  البدائية (DIY) التي ألقيت من الطائرات المروحية، وسَخِرَ الروس من هذا الادعاء ووصفوه بالتافه، لكن ’’هيغنز‘‘ قدم لقطات واسعة واضحة تشير إلى عشوائية هذه البراميل وآثارها التدميرية الكبيرة، ورد السخرية والتفاهة لأصحابها.

إن غياب الردع الفعال والتعامل الهش مع ملف الكيماوي فائق الاستثنائية، سمح لنظام آل أسد أن يكرر الجريمة حوالي 184 مرة مما أدى لمزيد من الضحايا وهو مطمئن؛ فعُقبَ الخذلان الدولي للشعب المخنوق والمذبوح والمقصوف، تغيرت نظرة السوريين للأمم المتحدة ومجلس الأمن وكافة المنصات الدولية، لأن تعامل المجتمع الدولي تجاه مآسينا عكسَ أن ثمةَ خللاً ما، لم تستطع أن تُخلِّص شعباً طالبَ بالحرية والكرامة بوجه نظام قاتل سفاح مجرم على الرغم من وجود آلاف الدلائل والوثائق التي تثبت جرائمه، وإذا انتفى وجود ذلك الخلل، فليس هناك ثمة مبرر لترك السوريين سوى أن المجتمع الدولي يريد بقاء نظام آل أسد الجواسيس في حكم سورية من دون النظر إلى ما يترتب على بقائه من فناء شعب: قتلاً وتهجيراً واعتقالاً، غير مكترثين بأرواح الملايين.

إن المجتمع الدولي مطالب بترك المماطلة القاتلة وتسببت بتعميق المأساة، وعليه تحمُل مسؤولياته بمحاسبة نظام آل أسد على جرائمه إنصافاً لشهداء سورية وشعبها الذي يعيش مأساة إنسانية فريدة بسبب هذا النظام، وإحالة ملفه للمحكمة الجنائية الدولية، وأن انبثاق أداة وطنية سورية مستقلة لتمثيل الشعب بشرعية واقتدار، والتحرك الفعال بجدول زمني لتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 وتحقيق الانتقال السياسي في سورية هو ضرورة وأولوية.

المصدر: إشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى