وسط الاقتتال الدائر في الشمال السوري، بين مجموعات من الفصائل المتناحرة على بقعة جغرافية محددة ومطوقة، نتيجة الاحتقان الموجود بشكل مستمر لأسباب كثيرة أهمها النزاع على مناطق النفوذ الداخلية، دخل ملف الشمال السوري على خط ترتيب الخريطة الفصائلية حيث تجري عملية إلغاء منظمة، تهدف إلى إبقاء المنطقة الخاضعة للنفوذ التركي تحت سلطة قوة مركزية واحدة تشرف عليها.
ويجري ذلك – وفق محللين – انسجاماً مع تطورات الموقف التركي والاستدارة نحو تطبيع العلاقات مع النظام السوري، تهيئة لمستقبل منطقة «خفض التصعيد» شمال غربي سوريا ، ومصيرها على المدى البعيد ضمن ما نصت عليه اتفاقيات وتفاهمات أستانة التي جمعت النظام السوري وإيران وروسيا وتركيا بالإضافة إلى التشكيلات المنضوية تحت راية «الجيش الوطني السوري»، وهو التفاهم الكامل على عودة هذه المناطق إلى سلطة النظام السوري ولو «رمزياً» دون دخول الجيش أو القوى أمنية.
مصادر محلية، قالت إن هيئة تحرير الشام دخلت قبل يومين إلى عفرين بشكل منظم، غير فوضوي، بهدف استئصال فصيلي «الجبهة الشامية» و»جيش الإسلام» ضمن الفليق الثالث أو ترحيلهم إلى منطقة «نبع السلام»، بعد أن تمكنت من السيطرة الكاملة على المدينة الواقعة ضمن منطقة «غصن الزيتون» في ريف حلب شمال سوريا.
تساؤلات حول الموقف التركي
ويجري ذلك وفق مراقبين لـ «القدس العربي» من أجل الوصول إلى هدف محدد وهو خلق إدارة مركزية للشمال، بيد قوة واحدة تتسلم منطقة إدلب والأرياف المحيطة بها، لعمق أمني معين، وتدير المعابر، وذلك لترتيب المنطقة بما يتناسب مع توجه أنقرة للمرحلة المقبلة بحيث تستطيع هذه الأخيرة الايفاء بالتزاماتها البينية والدولية بدقة، في خطوة أولية لتطبيق مذكرة 5 آذار/مترس 2020 بخصوص إدلب، والتي تعتبر وثيقة وبروتوكولًا استرشاديًا يضاف إلى مذكرة خفض التصعيد (2017)، لترسيخ اتفاق دائم لوقف إطلاق النار. وينشغل مراقبون بالإجابة عما إذا تركيا عاجزة عن ضبط الأمن في المنطقة التابعة لنفوذها شمال سوريا، أم أن ما يجري هو بترتيب وإشراف من أجهزة الاستخبارات التركية في المنطقة، وما هو الدور التركي الحقيقي؟ وما مصير الشمال؟
فما أثار المزيد من التساؤلات هو أن هيئة تحرير الشام التي يقودها محمد الجولاني لا يمكن أن تدخل مناطق درع الفرات وغصن الزيتون وهي مناطق نفوذ الجيش التركي، من دون ضوء أخضر. كما أن اللافت خلال اليومين الماضيين هو أن الاشتباكات والاقتتال الداخلي كانت محصورة في مناطق معينة أما باقي المناطق وخاصة عفرين ومحيطها فالتغييرات كانت متسارعة على مستوى الفصيل المسيطر، حيث تتم بطريقة الاستلام والتسليم، والدخول والخروج من دون مواجهات.
المعارض والمحامي السوري محمد سليمان دحلا عزا ما يجري من اقتتال بين الفصائل إلى الاحتقان الموجود أصلاً، مشيراً إلى ضرورة الابتعاد عن نظرية المؤامرة، واتهام تركيا بالاقتتال. وقال دحلا المقيم في ريف حلب في اتصال مع «القدس العربي» إن «الاحتقان الفصائلي موجود بشكل مستمر لأسباب كثيرة أهمها النزاع على مناطق النفوذ الداخلية وما يمكن أن تتوفر عليه من موارد اقتصادية، ولا يلبث أن يتحول إلى اقتتال بمجرد حدوث شرارة مثل موضوع تصفية الشهيد أبو غنوم وزوجته». مضيفاً أن «إعطاء الموضوع أبعاداً مؤامراتية يحمّله أكثر مما يحتمل».
وأضاف المتحدث والمراقب للأوضاع عن كثب «لا شك أن أعداء الثورة هم المستفيدون من النزاعات الفصائلية بغض النظر عن سببها، ولا شك أن تركيا تتحمل قدر كبير من المسؤولية عن الفشل الاداري والأمني الذي تتسبب به حالة الفصائلية وهو ما ينعكس سلباً على ترويجها لفكرة المنطقة الآمنة والعودة الطوعية» لذلك رجح المتحدث دخول «المسؤولين الأتراك على ملف الشمال السوري لترتيب الخارطة الفصائلية بعد اندلاع الاشتباكات، لأن تركيا معنية بإنهاء التجاوزات والانتهاكات والخروقات الأمنية وكذلك معنية بإيجاد حل لمشكلة هيئة تحرير الشام».
ولم يستبعد دحلا «تفكيك فصائل ودمج أخرى وظهور تشكيلات أكثر تنظيما وانضباطا وقدرة على مواجهة استحقاقات المرحلة المقبلة والتي تتراوح بين ترتيب حل سياسي تكون المعارضة المسلحة جزءاً منه وفق التفاهمات التركية – الروسية أو إعلان فشل النظام في إنهاء تهديد «قسد» وبالتالي دخول شرق الفرات عسكرياً».
ويرى خبراء ومراقبون تحدثوا لـ «القدس العربي» أن مصير الشمال السوري – على المدى البعيد – هو ما نصت عليه اتفاقيات وتفاهمات أستانة التي جمعت كلاً من النظام السوري وإيران وروسيا وتركيا، والذي يقضي بعودة هذه المناطق إلى سلطة «الدولة»، عندما يتم الاتفاق على صيغة وشكل هذه الدولة، معتبرين أن وجود هذه التشكيلات في الشمال السوري المسمى بالمحرر «هو وجود مؤقت وليس دائماً»، لذلك لا يمكن البناء على شكل هذا الوجود لا من حيث الإجراءات القانونية، ولا الدفاعية، كما أن هذا الوجود لا يزال غير شرعي بنظر المجتمع الدولي بما أن هذه التشكيلات هي ذاتها اعترفت بنفسها، بأنها تشكيلات مسلحة خارج سيطرة الدولة المقصود بها النظام السوري.
وأبدى الخبراء اعتقادهم بأن تركيا غير عاجزة عن إيقاف الاقتتال وهي تحاول الوصول إلى تفاهمات على الأرض لكي توقف إهراق الدماء، «لأن استمرار العمليات العسكرية يؤثر على الدولة التركية التي تحتضن بدورها ملايين السوريين داخل أراضيها».
ميدانياً، انسحب فصيلا «جيش الإسلام» و»الجبهة الشامية» الجمعة، من عفرين في اتجاه إعزاز، فيما بقيت الشرطة المدنية والعسكرية في مقراتها دون نشوب مواجهات، بينما طمأنت «تحرير الشام» عبر معرفاتها ووسائل الإعلام التابعة لها، المدنيين في عفرين، وقالت إن «العرب والأكراد هم من أهل البلد والمهجرين محل اهتمامنا وتقديرنا». وتوصل طرفا النزاع «الفيلق الثالث» و»هيئة تحرير الشام»، الجمعة، إلى اتفاق، حول مناطق ريف حلب الشمالي. ونص الاتفاق على استمرار عمل المؤسسات المدنية، بإدارة الحكومة السورية المؤقتة، بينما تشرف «تحرير الشام» على المفصل الأمني والاقتصادي وإدارة المعابر.
وكان لافتاً ما قالته شبكة «بلدي نيوز» المحلية الإخبارية، بأن الاتفاق جرى بعد اجتماعات عدّة، جمعت طرفي «الفيلق الثالث» من جهة و»هيئة تحرير الشام» من جهة ثانية، لتتوصل إلى بوادر اتفاق أن تتولى المؤسسات المدنية من الشرطة المدنية والعسكرية والجهات المدنية إدارة المناطق، وتخرج الفصائل العسكرية من المدن بشكل كامل. وأضاف المصدر، أن «تحرير الشام» ستتولى ملف الإدارة الأمنية والاقتصادية والمعابر، وتخرج الفصائل من المدن بشكل كامل، ويكون لها ترتيب آخر في قادم الأيام.
«لا مظاهر مسلحة في عفرين»
وأكد الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع في «الحكومة السورية المؤقتة» أيمن العاسمي، في تصريح له «خلو مدينة عفرين من كافة المظاهر المسلحة»، مؤكداً أن من يقوم بحفظ الأمن والأمان في المدينة هم عناصر الشرطة العسكرية والمدنية. وحضر الاجتماع قائد مجلس الشورى في الجبهة الشامية أبو أحمد نور وقائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني بالإضافة إلى اجتماعات أخرى جمعت قادة من الطرفين، حضر أحدها الوالي التركي وشخصية قطرية.
وجاء الاتفاق بعد معارك جرت على مدى عدّة أيام بين الطرفين، تقدمت بها تحرير الشام من محورين حتى سيطرت على جنديرس وعفرين، فيما انسحب «الفيلق الثالث» إلى منطقة كفرجنة غرب إعزاز لتبدأ المفاوضات بعدها. وسيطرت «هيئة تحرير الشام»، التي تشكل جبهة النصرة عمودها الفقري، الخميس، على كامل مدينة عفرين في ريف حلب الشمالي، بعد انسحاب فصائل «الفيلق الثالث» التابع للجيش الوطني من المدينة.
وقالت مصادر محلية من عفرين، إن «الهيئة» سيطرت على المدينة دون أي مقاومة تذكر، وأن أرتالاً عسكرية لهيئة تحرير الشام ما زالت تتوافد على مدينة عفرين، لمتابعة السيطرة عليها بشكل كامل». وحسب مصادر متطابقة فإن كافة المؤسسات والمنظمات والشرطة العسكرية والمدنية، مازالت موجودة في مقراتها ولم يحصل أي احتكاك يذكر بينها وبين «الهيئة» التي نشرت قواتها في شوارع المدينة.
ومساء الأربعاء، سيطرت «تحرير الشام» على مدينة جنديرس، بعد اشتباكات دامت لساعات مع «حركة التحرير والبناء» التابعة للجيش الوطني، استخدم فيها كافة أنواع الأسلحة، حيث اقتحمت «الهيئة» المدينة من جهة قرية أقجلة وتل سلور.
وجاءت سيطرة «الهيئة» بعد اشتباكات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة مع «الجيش الوطني» المدعوم من تركيا، على قريتي «دير بلوط» و»المحمدية». وكانت «هيئة تحرير الشام» قد تدخلت إلى جانب «فرقة الحمزة» على خلفية اشتباكات بدأت في مدينة الباب وتوسعت إلى مناطق أخرى عقب ثبوت تورط «فرقة الحمزة» باغتيال الناشط «محمد أبو غنوم وزوجته الحامل».
المصدر: «القدس العربي»