في صورة نادرة يظهر فيها عدد من الجنود الأميركان يلتقطون الصور التذكارية، ويتبادلون الابتسامات مع عدد من الجنود الروس، وذلك في أثناء تقاطع رتليهما العسكريين بالقرب من أحد الحقول النفطية في بلدة القحطانية في ريف الحسكة، وقد أثارت هذه الصور التي نشرتها وكالة فرانس برس يوم السبت الماضي في الثامن من شهر تشرين الأول الجاري، مزيداً من التعليقات التي يميل معظمها إلى الاستغراب، وربما استبطن بعضها نوعاً من السخرية، ولعل مبعث ردود الفعل المختلفة والتي تصل إلى حد التناقض أحياناً إنما يعود إلى حالة ساخنة من المواجهة السياسية بين واشنطن وموسكو كانعكاس مباشر للحرب الروسية الأوكرانية، إذ يتساءل الكثيرون هل أميركا وروسيا أعداء في أوكرانيا وأصدقاء في سوريا؟
ما يمكن تأكيده هو أن لا أحد يستطيع تجاهل إرثٍ كبير من العداء الساخن راكمته العقود الممتدة بين الطرفين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في بداية تسعينيات القرن الماضي، إذ شهدت تلك الفترة انفكاك العديد من الجمهوريات عن المركز (موسكو)، واتجهت نحو الغرب اقتصادياً ومن ثم سياسياً مؤذنةً بذلك بنهاية التنافس العالمي بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي.
ولئن كان ميخائيل غورباتشوف الشاهد الأخير على تداعي الدولة السوفييتية العظمى، بل ربما اتهمه الكثير من الشيوعيين بأن (البيريسترويكا) التي ضمنها خلاصة أفكاره وقناعاته كان لها إسهام مباشر بهدم طود الشيوعية، فإن فلاديمير بوتين الذي تمرس في عالم الاستخبارات وخبر جيداً مفاصل الحكم وقيادة الدولة من المسالك الخفية، ربما وجد في وصوله إلى هرم السلطة عام 1999 بعد استقالة بوريس يلتسين فرصة تاريخية للنهوض بالمجد الروسي من وسط الخرائب والركام، يدفعه جموح كبير نحو التغول في السلطة وتسعفه خبرة استخباراتية هائلة في القدرة على التخلص من أي خصم مفترض، وهكذا تهيأ بوتين للمواجهة مع الغرب من جديد دون أن تكون الشيوعية هي الذخيرة الملازمة له، بل ربما باتت نزعته نحو السيطرة والتسلط وميله نحو البطش هي الأيديولوجية البديلة.
في العام 2014 قرر القيصر الحالم ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، كما تدخل عسكريا آنذاك في شرقي أوكرانيا مدشناً بذلك الفصل الأول من فصول المواجهة مع الغرب بقيادة واشنطن التي اكتفت باستخدام وسائل كابحة لعنفوان بوتين لا تتجاوز العقوبات الاقتصادية التي تفرضها على موسكو.
ربما كان الثلاثين من أيلول 2015 مفصلاً ثانياً من مفاصل المواجهة الروسية مع الغرب، يوم وجد بوتين الفرصة مناسبة للتدخل العسكري المباشر في سوريا، وبهذا التدخل يكون قد ضمن الوصول الى الشواطئ الدافئة للمتوسط أولاً، كما استطاع إنشاء قواعد عسكرية خلف خطوط الناتو فعلياً، فضلاً عن استخدامه لسوريا كقاعدة عسكرية في الشرق الأوسط عامة، أما استثماراته الاقتصادية في سوريا ووضع اليد على مقدرات البلاد لفترة زمنية قادمة بعيدة الأمد فذلك تحصيل حاصل كما يقال.
لعل ما دفع بوتين أكثر تجاه هذه الخطوة هو المباركة الغربية ممثلة بالتأييد الأميركي الذي وجد بالتدخل الروسي فرصة للتنصل من مسؤولياته الأخلاقية تجاه ما يجري للشعب في سوريا، وربما راق لواشنطن شعارات بوتين آنذاك المتمثلة بمحاربة الإرهاب والتطرف في سوريا، ولم تشأ واشنطن تكذيب ادعاءات الروس على الرغم من إجرامهم الفظيع بحق الشعب السوري الأعزل، بل آثرت أن تتقاسم وإياهم النفوذ على الجغرافيا السورية.
خلال سبع سنوات مضت لم تشهد الساحة السورية أي اصطدام مباشر بين الطرفين سوى مرة واحدة حين جازف الروس ودفعوا بمرتزقة فاغنر في شباط 2019 نحو حقل كونيكو النفطي الذي كانت تسيطر عليه القوات الأميركية التي أعطت بوتين آنذاك رداً عسكرياً ربما كان درساً بليغاً بعدم التجاوز لما هو متفق عليه.
لم يجد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف أي عناء من نظرائه في الخارجية الأميركية سواء في إدارة أوباما أو ترامب أو الرئيس الحالي جو بايدن في إدارة الملف السوري طالما أن واشنطن لم تعترض يوماً على إجرام الروس في سوريا، ولا اعترضت كذلك على إنشاء موسكو لمحور أستانا الموازي لجنيف، ليقينها أن الأوراق التي تمتلكها بخصوص القضية السورية كفيلة بديمومة قدرتها على التحكم بأي حل نهائي للمسألة السورية، إذ إن واشنطن هي من تضع يدها على مساحة تقارب ثلث الجغرافيا السورية، وهذه المساحة تختزل كامل الغلة الاقتصادية السورية، فضلاً عن أنها الوحيدة القادرة على فرض عقوبات تشل نظام الأسد، وبالتالي هي وحدها صاحبة القرار في تعويم أو عدم تعويم نظام الأسد إقليمياً ودولياً، وتبقى المساحات الأخرى من وجهة نظر واشنطن ملعباً لمشاغلة واستنزاف بوتين تارة وترويضه تارة أخرى، وبالتالي هي قادرة على الإطاحة بأي مخطط روسي في سوريا لا ينسجم مع مصالحها أو يناقض تصوراتها، ولا أدلّ على ذلك من فشل بوتين حتى الآن في الحصول على موافقة دولية بخصوص عودة اللاجئين وإعادة الإعمار.
لعل الاستراتيجية الأميركية الناعمة التي وجدها بوتين حيال تدخله العسكري المباشر في سوريا لم تكن كذلك في أوكرانيا، وذلك على الرغم من الرمال الناعمة الكثيرة التي ذرتها إدارة بايدن أمام بوتين والمتمثلة بالوعود بعدم التدخل الأميركي في أي حرب تشنها موسكو على أوكرانيا، ولئن اكتفت الولايات المتحدة بمشاركة روسيا في إدارة الصراع في سوريا فإن الأمر في أوكرانيا لا يمكن أن يكون كذلك، إذ إن واشنطن في كييف هي طرف في الصراع وليست شريكاً في إدارته.
وفي كلتا الحالتين فإن واشنطن ما تزال أمينة على استراتيجيتها التي تعتمدها منذ ما بعد احتلال العراق عام 2003 والمتمثلة بعدم التدخل الأميركي المباشر في حروب خارج الولايات المتحدة الأميركية، وهذا لا يعني بالطبع تخليها عن مصالحها التي توجب عليها التدخل الدائم في أي مكان من العالم، بل لعلها تملك خيارات أخرى ليس أقلها ما تقدمه من دعم عسكري كبير لأوكرانيا يجعل من جموح بوتين يتقوض بين فترة وأخرى، بل ربما أتاحت لها قدراتها العسكرية الهائلة التحكم بسيرورة المعارك بالدرجة التي تريد.
وطالما يبقى الهدف الأميركي هو حصار روسيا وتقويضها تدريجياً واستنزاف جموح بوتين وليس الإجهاز المباشر عليه، فلا مانع لدى واشنطن من أن يتصافح جنودها مع الجنود الروس في سوريا بينما يهدونهم حمم الموت في أوكرانيا.
المصدر:موقع تلفزيون سوريا