أكثر من موت أقلّ من حياة

علي محمد شريف

لا هروب مما سيأتي ولا فكاك من مواجهة عادلة مع الزمن، سنستقبل حضوره مرغمين من أيّ الجهات التي يقرّر المجيء منها وفي المكان الذي يختار أن يدلف إليه، لقد أرسل إلينا عديداً من الرسل والنذُر، بلّغنا بموعد مجيئه وبما يجب فعله أو الامتناع عنه، وبما ينبغي لامتلاك الثقة والطمأنينة واليقين، ولاتقاء ما ينتظر تقاعسنا من خيبات وألمٍ وندم.

كثيراً ما حلمنا بالمستقبل وبنينا قصورنا السامقة فوق رمال الزمن المتحركة، قامرنا بما لدينا من رصيد في بنوك أعمارنا ولم نحصل إلا على أقلّ من حياة وأكثر من موت، وتماماً كما يفعل الطغاة رمينا أحمالنا الثقال فوق أقدامنا ظنّاً منا أننا نترك للزمن أن يحملها عنا، وأن ينوب عن إراداتنا المتخاذلة في تقديم ما تتطلبه الحقيقة ويفرضه الإنصاف من قرابين وعمل.

ما لا يمكننا إنكاره نحن الشعوب التي بيدها مفاتيح الأرض والسماء، نملك سرّة الكون وقلب العالم، وتجري في عروقنا أمواه الأبديّة، أننا لم نعد نستأهل أسماءنا الأولى، ولا صلة لنا بالمستقبل وقد قطعنا بأيادينا شرايينه المتدفقة بالحرية والعنفوان، وهجرنا مساكن أرواحنا الشاهقة، وفقدنا السيادة على حواسنا الغارقة في وحل الخطيئة، كيما نستريح من عبء السؤال وفروض المعرفة.

المستقبل. الزمن الذي لم يأت بعد، ذاك المقبل نحو شرقنا المنكوب، المتمهّل إنما بخطى عنيدة، منضبطة ورتيبة، يصعد إلى قلاعنا المهدّمة النائية، يحمل إلينا حصتنا غير المستحقة من الشمس والماء والهواء، لن يمنحنا أبداً نحن الضالعين بقهرنا، الخانعين المستضعفين، وقتاً إضافيّاً  لترتيب ذواتنا وأشيائنا ومنازلنا المتهالكة، لن يتسامح مع غفلتنا أو يفسح لنا كي نتدارك ما خلّفه عجزنا وأن نعوّض ما فات، ولا أن نتخلص من العفن المتراكم فينا وفيما حولنا، لن تكون أمامنا الفرصة لإعادة بناء ما هدّمته أيادينا، واستعادة ما هدرنا من قوة وما بدّدنا من إمكانات.

ستكون طريقه للوصول إلينا في الموعد المحدّد سهلة ومعبّدة، لن تعيق سبيل المستقبل سدود الحاضر ولا متاهات الماضي وأنفاقه المظلمة، ولن تنال من حزمه وبأسه ترسانات الحجج والمبررات، ستتحطم قوارب الهاربين وتتكسر سيوف المردة الصدئة، وترتدّ سهام الأدعية المسمومة والشعارات المخاتلة وديباجات الصمود، وتتساقط كشظايا تسوط ظهور العبيد، وأقفية من دفنوا رؤوسهم في وحل الرياء ومستنقع الضغينة والخسّة.

عسيراً سيكون حساب المستغرقين في النوم بعد ولائم الدمّ، أحدٌ لن ينجو من سكّان غابتنا المظلمة، فالنار تطهّر ولا تذرْ، سيلتهم الحريق الوحوش والضواري والدواب وستُسحق السحالي والعلقات وكلّ من تثعلب أو تأرنب تحت مخالبهم وحوافرهم المتوسّلة النجاة.

وحدها الطيور التي حلقت باكراً وبنت أعشاشها فوق القمم المتعالية والذرى الناهضة للشمس، ستطير وتطير كيما تزود عن وطنها الأزرق، ستعزف بأجنحتها موسيقى الصباح، وتغرّد لزمن أخضر قرّر المجيء في وقته ذات طوفان.

لعلّه محقّ من يرى في الموت انتحاراً وسيلة وحيدة ومشرّفةً لخلاص من فاته الاستعداد والتحضير للمستقبل، فما ينتظر العابث والمستهتر حكم الزمن القطعيّ بموت آخر مذلّ كأن يتحوّل إلى طعمٍ للحيتان وأسماك القرش، أو أن تخلّفه الشيخوخة جيفة للنسور والحيوانات القمّامة.

ثمّة وسيلة أخرى للنجاة، أن ننحر خوفنا وأن نجفّف ينابيع هذا الخوف، أن نمزّق كفن العزلة وننزع عن الروح وحشتها ونبدّد عتمتها ووحدتها، أن نضيء أنفاق الهزيمة ونبحث عن مصدرٍ للنور في عين الألم، أن نستنبت الإنسان في الخاصرة الرخوة لعصر التوحّش، وأن نطرق بما تبقى لدينا من قوة وعزم باب الحياة علها تستيقظ من غيبوبتها وتسري في عروقنا.

ما الذي يخشاه المحكوم بالموت أكثر من الموت، ما الذي يمكن انتظاره من العدم؟ ثمّة دائماً ما يمكن فعله، فذات الحبل المعقود على الحقد والكراهية قد يكون سلّماً وسبيلاً للارتقاء إلى ذرى الحبّ والحياة.

المصدر: إشراق

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى