للتراجع الروسي في أوكرانيا بعض الأثمان في نفوذ موسكو في الفضاء السوفياتي السابق. والمثال الفاقع هو نقل ملف النزاع الأرميني-الأذري من يد الكرملين إلى يد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
فعقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لأرمينيا في أيلول (سبتمبر) الماضي، بدا أن واشنطن عازمة على الانخراط في عملية سياسية تفضي إلى تسوية دبلوماسية لنزاع مستمر منذ ثلاثين عاماً. وكانت روسيا حتى اليوم الأخير الذي سبق هجومها على أوكرانيا، هي صاحبة الأمر والنهي في هذا الملف، وقد استعانت بتركيا رمزياً عام 2020، نظراً إلى ما يملكه الرئيس رجب طيب أردوغان من نفوذ على باكو.
وعقب تدهور الوضع على الحدود الأرمينية-الأذرية في الأسابيع الأخيرة، بدا وكأن باكو تريد انتهاز فرصة الانشغال الروسي في أوكرانيا، كي تستأنف هجومها على أرمينيا. ولم تنجح الاتصالات التي أجراها الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف في لجم التدهور. لكن منذ زيارة بيلوسي يريفان وتحذيرها أذربيجان من مغبة تصعيد الموقف، هدأت الجبهة.
والسبت الماضي التقى وزيرا الخارجية الأرميني آرارات ميرزويان والأذري جيهون بايراموف في جنيف، بوساطة من الاتحاد الأوروبي. ووفق بيان أصدرته الحكومة الأرمينية، فإن اللقاء تناول البحث في “مسودة معاهدة للسلام” بين أرمينيا وأذربيجان. ومعلوم أن الاتحاد الأوروبي كان أشرف على توسط في لقاءين في وقت سابق من العام بين الرئيس الأذري إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان.
وليست منطقة القوقاز وحدها التي تتفلت من القبضة الروسية، إذ إن طاجيكستان وقيرغيزستان، الجمهوريتين السوفياتيتين السابقتين في آسيا الوسطى، شهدتا مناوشات حدودية الشهر الماضي، في وقت كان الجيش الروسي يتراجع على نحو فوضوي من خاركيف في شرق أوكرانيا.
وللمفارقة لم تكن روسيا هي صاحبة الفضل في تهدئة الموقف، وإنما الرئيس الصيني شي جينبيغ خلال قمة سمرقند لمنظمة شنغهاي للتعاون في 16 أيلول (سبتمبر) الماضي، حيث مارس ضغوطاً على كلٍ من الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمانوف والرئيس الطاجيكي صدر جباروف، كي يلتقيا على هامش القمة ويناقشا تسوية الخلافات بينهما بالوسائل الدبلوماسية.
قد يكون من المفيد الإتيان على ذكر إشارة مهمة هنا، ألا وهي أن روسيا تفقد نفوذها في آسيا الوسطى لمصلحة الصين، أكثر مما تخسره لمصلحة الولايات المتحدة على غرار الوضع في القوقاز. لا يعني هذا أن أميركا فاقدة الاهتمام بآسيا الوسطى، وإنما تواجه صعوبات في اقتلاع النفوذ الصيني. وتعتبر المنطقة مهمة بالنسبة الى واشنطن لأنها تحتاج إلى آسيا الوسطى كي تبقي أفغانستان تحت أنظارها، بعدما سيطرت “طالبان” على السلطة هناك قبل عام ونيف من الآن.
وفي أميركا اللاتينية، تسعى الولايات المتحدة إلى مغازلة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، من طريق رفع بعض العقوبات عن كراكاس. وبينما أفرزت الانتخابات في دول أميركا اللاتينية رؤساء يساريين وخصوصاً في كولومبيا الحليفة الموثوقة لدى واشنطن، فإن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يقوم بجولة حالياً على عدد من دول المنطقة، التي طالما اعتبرتها أميركا حديقتها الخلفية. ولم تخفِ إدارة الرئيس جو بايدن انزعاجها حيال امتناع العديد من دول أميركا اللاتينية عن التصويت إلى جانب التنديد بالهجوم الروسي على أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فضلاً عن امتناعها عن الانضمام إلى العقوبات الغربية على موسكو، وفي مقدمها المكسيك.
أما في الشرق الأوسط، فإن روسيا تحاول الاحتفاظ بنفوذ في دمشق وتمتين علاقاتها بتركيا، كي لا تنقلب موازين القوى في سوريا، بعدما اضطرت موسكو إلى سحب جزء من قواتها من الأراضي السورية وكذلك بطاريات صواريخ “إس -300”. وقد ملأت إيران الفراغ في بعض المناطق التي انسحبت منها القوات الروسية، في حين لوحت تركيا قبل أشهر بالتوغل أكثر في مناطق سيطرة النظام والمقاتلين الأكراد.
هل من المبكر الذهاب في التخمينات إلى حد القول إن قبضة روسيا الإقليمية والدولية بدأت تتراجع كانعكاس للتعثر في الميدان الأوكراني؟ ربما. لكن ثمة بوادر مقلقة لموسكو.
المصدر: النهار العربي