في خطابه الإحتفالي بضم اقليم الدونباس بمقاطعاته الأربع وبدلاً من التهديد عرض بوتين بطريقة غير مباشرة صفقة على الغرب. هو يقول : بالنسبة لي أعتبر أنني حققت هدف الحرب بفصل إقليم الدونباس عن أوكرانيا وضمه لروسيا , لم أعد أريد شيئا آخر , بقية أوكرانيا لاتهمني , اتركوا لي اقليم الدونباس وتنتهي الحرب. فقط عليكم أن توقفوا إمداد أوكرانيا بالسلاح , وبدون سلاحكم سيحاربون لمدة قصيرة , ثم يكتشفون أنهم لاطاقة لهم بالجيش الروسي , وبعدها لابد لهم من توقيع اتفاق سلام معنا أو التوقف عن القتال بموجب اتفاق هدنة يستمر عشرات السنين مثلما هو الحال بالنسبة لاتفاق الهدنة بين كوريا الشمالية والجنوبية , أو اتفاق الهدنة بين لبنان وسورية واسرائيل . هكذا لايعود ضروريا الخوف من الحرب النووية ولا من فقدان الغاز والنفط الروسي. . فقط الشيء بالشيء يذكر : فكيسنجر في تصريحاته الأخيرة حول روسيا وأوكرانيا كان يرى أنه لابد من منح روسيا شيئا في النهاية , رغم أنه يتنبأ بفشل الحملة العسكرية الروسية وبخروج روسيا من الحرب أضعف مما كانت عليه . لكن من الواضح أن عرض بوتين لايدعمه الموقف الميداني للجيش الروسي , بالتالي لن يصادف عرضه القبول بالنسبة للغرب , مثلما لن يصادف طلب أوكرانيا الانضمام للناتو القبول باعتباره يعني الدخول في مواجهة مباشرة بين الناتو والجيش الروسي في حين مازال ذلك الدخول في مواجهة مباشرة خطا أحمر للغرب وسيبقى كذلك مادامت روسيا لم تلجأ للسلاح النووي على الأقل . لكن ما يفعله الطلب الأوكراني بالانضمام للناتو أنه يشعل الضوء البرتقالي لروسيا في أن أي استخدام للسلاح النووي ربما يستدعي سحب الطلب الأوكراني من درج الطاولة ووضعه في التنفيذ . روسيا ستجمع قواها العسكرية التقليدية لدفع الأوكرانيين خارج اقليم الدونباس الذي أصبح روسيا منذ اليوم . وسيستغرق ذلك وقتا يطول أو يقصر , تستطيع روسيا خلاله تحمل الخسائر على أن لا تأخذ هيئة انهيارات تشبه ما حصل في خاركيف , وسيعطيها ذلك الوقت الفرصة لفتح أقنية مفاوضات تحت الطاولة مع الولايات المتحدة وأوربة للبحث في الصفقة السياسية التي ستنهي الحرب والتي يعرف الجميع أن لابد منها في النهاية. صحيح أن خطاب بوتين أبعد مؤقتا شبح استخدام الأسلحة النووية , لكنه لم يشطب ذلك الاحتمال . مع ذلك فهناك المفاجئات التي لابد من أخذها بالاعتبار , فالحروب لاتسير حسب مايرسمه هذا الطرف أو الطرف الآخر , واحتمال سيرها بطريق ثالث يبدو في كثير من الأوقات الاحتمال الأكبر . وكما يقول فيلسوف الحرب الألماني كارل فون كلاوتفيتز فللحرب قوانينها الداخلية الخاصة , وتلك القوانين تبعدها باستمرار عن محاورها وأهدافها الأصلية . لاشك أن الأشهر الماضية حملت معها معاناة أوربية ثقيلة , فبدائل الغاز الروسي رفعت سعر الغاز بشكل كبير جدا وصل الى سبعة أضعاف سعره في الولايات المتحدة مما يهدد الاقتصاد الأوربي بالركود وهناك أعباء ايواء مايقارب من أربعة ملايين لاجىء أوكراني نزحوا لمختلف البلدان الأوربية , كما أن هناك مايقارب ستة ملايين أوكراني تركوا منازلهم وبلداتهم ونزحوا داخل اوكرانيا الى أماكن أكثر أمنا وهم أيضا بحاجة للمساعدة . وتفرض الحرب الأوكرانية على الاتحاد الأوربي تقديم مليارات من اليورو لدعم الاقتصاد وتقديم السلاح . وفضلا عن ذلك فالمخاوف من امتداد الحرب لأوربة والتهديدات النووية وضعت الشعوب الأوربية بحالة من الذعر لم يعتادوا عليها منذ الحرب العالمية الثانية . تشبه الحرب الأوكرانية سكينا ذات حدين , فمثلما صار واضحا أنها تفتقر في روسيا لتأييد قطاع واسع من الشعب الروسي , وتشكل طوابير السيارات على الحدود الروسية – الجورجية والتي وصل طولها لعشرين كيلومترا دليلا دامغا لنفور الروس من تلك الحرب وعدم استعداد الشباب الروسي للتضحية من أجلها , فهي ليست حربهم بمقدار ماهي حرب بوتين . ومثلما تؤلم العقوبات الاقتصادية الاقتصاد الروسي وتلتف كحبل حول رقبته , فهي تؤلم الاقتصاد الأوربي وتخلق رأيا عاما مضادا للحرب . بدون شك فإن تلك الضغوط من الجانبين ستدفع باتجاه ايجاد حل سياسي لانهاء الحرب . لكن كل الدلائل تشير إلى أن الوقت مايزال مبكرا للوصول لمثل ذلك الهدف , و حين يضم بوتين واحدا من أهم أقاليم أوكرانيا وأغناها بالفحم والمعادن والصناعة فهو لايدفع باتجاه الحل السياسي بقدر ما يدفع باتجاه تصعيد الحرب ونقلها لأبعاد أكثر خطورة من أي وقت .