للاستعطاف دوافع وطرق، والغاية منه استمالة الطرف الآخر، والاستعطاف السياسي يبرز في زمن الاضطراب والصراعات، بينما الاستعطاف العاطفي يبرز في زمن الترف، وشواهد الاستعطاف من الحاكم أو المحبوب كثيرة في الشعر العربي.
يُتفَق على أن الشعر في العصر القديم، هو الوسيلة الإعلامية الأكثر تأثيراً، والشاعر يُعتبر إعلامياً خطيراً فيتم استمالته أو الغضب عليه، ولذلك نجد الشاعر محرضاً ومحفزاً وسفيراً ورسولاً ونذيراً وسلاحاً فتاكاً.
ومن الطبيعي أن تكون لمراكز القرار والسلطة علاقة مع الإعلام لشرعنة قوانينها وترهيب أعدائها ولذا كان للشاعر حظوة كبيرة.
بذور الإعلام في الجاهلية
لعل “النابغة الذبياني” أول مَن سجل له الاستعطاف السياسي من الحاكم، حيث استعطف الغساسنة حين هُزمت ذبيان خلال الحرب بينهما، فقد كان النابغة من شعراء المناذرة، ومن المحظيين عند “النعمان بن المنذر” ملك الحيرة، الذي كافأه على بعض قصائده بمائة ناقة.
وحين حدثت الحرب، وهُزمت ذبيان وسُبيت النساء، ومنهن (أميمة) ابنة الشاعر، انتقل إليهم وأقام عندهم وبدأ يمدحهم عسى ينقذ ابنته ونساء وقومه، وكانت قصيدته البائية المعروفة “كِليني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةُ ناصِبِ”.
تطوُّر الإعلام في عصور الخلافة الإسلامية
كذلك الشواهد كثيرة في عصر النبوة والخلافة الراشدة والأموية والعباسية والأندلسية إلى يومنا هذا، ففي عصر النبوة عبّر الشاعر كعب بن زهير أبي سلمى، الذي طلب العفو من رسول الله، بعد فتح مكة، وقد أهدر الرسول دم كعب الذي هجا الإسلام وأخوه بجير الذي دخل الإسلام قبله، وكانت قصيدته الرائعة (بَانَتْ سُعَادُ) وقد عفا عنه الرسول الكريم وخلع عليه بُرْدَته.
في العصر الأموي نجد الكميت بن زيد المناصر للشيعة، يستعطف الخليفة الأموي “هشام بن عبد الملك”، فقد جاء في كتاب التذكرة الحمدونية “لما دخل الكميت بن زيد على هشام بن عبد الملك معتذراً مما كان طلبه لأجله، سلّم ثم قال: يا أمير المؤمنين، غائب أناب، ومذنب تاب، محا بالإنابة ذنبه، وبالصدق كذبه، والتوبة تذهب الحوبة، ومثلك حلم عن ذي الجريمة، وصفح عن ذي الرّيبة. فقال له هشام: ما الذي نجّاك من الغَوِيّ فقال: صدق النية في التوبة. قال: ومن سنّ لك الغيّ وأورطك فيه؟ قال: الذي أغوى آدم فنسي ولم يجد له عزماً.”
ولعل “ابن زيدون” من أشهر الذين كان الاستعطاف سواءً السياسي أو العاطفي، خصلة مهمة من خصائصه الشعرية، وهو الوزير والسياسي العاشق، ولا عجب فقد وُلد في قرطبة سنة 1003 م، وشهد الصراع على الحكم بين البربر والعرب والصقالبة، وقام باستعطاف الحاكم الجهوري المعروف “الحزم بن جهور”، الذي ترأس حكومة قرطبة بعد موت آخِر خليفة أموي هناك، وقد زجّه في السجن لوشاية ولم يخرج منها إلا بعد تدخُّل ابن الحاكم الذي كان صديقاً له وعيّنه وزيراً قبل انتقاله إلى إشبيلية في الأندلس.
في عصر تفكُّك الدولة العباسية وتناثُر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها، نجد الشاعر الأشهر “أبو الطيب المتنبي”، الذي كان همه الشاغل السياسة، ومع أن ذلك العصر عصر اضطراب، حيث تعرضت الحدود لغزوات الروم، وظهور الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة.
فقد كان هناك ازدهار للإعلام، لذلك كان لكل وزير وأمير في الإمارات السياسية المتنافسة، مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء، يتخذهم منبراً إعلامياً، ومسوقاً لشرعيته بين المجتمع.
وكانت حالة (ديمقراطية) تحول الشاعر من مكان إلى آخر حين الاختلاف، ويستقبله الحاكم الخصم أفضل استقبال.
الشعر لم يَعُدْ مصدراً في الإعلام الحديث
في العصر الحديث، وما بعد الحديث، اختلف الإعلام وتعددت طرقه، فلم يعد الشعر هو المصدر الأهم للإعلام، وإنما بدأت تظهر تخصصات أو وسائل أخرى، من الصحافة المكتوبة والمنطوقة والمرئية واليوم المختلطة التفاعلية.
ولكن الإعلام بقي دوره كوسيلة مهمة للتوجيه والتثقيف وغسل الدماغ، سواءً في الحرب أو السلم.
يقول “هتلر” في كتابه “كفاحي” بأنه وجد الإعلام كله بيد اليهود، وكان لا بد من انتزاع الإعلام منهم.
ونضرب مثالاً على دور الإعلام التقليدي، نجد الكاتب اليهودي “إبراهام بوميروغ”، الذي وظفته وكالة الإعلام الغربية عام 1952م ليرأس تحرير مجلة تواجه مشاكل الشيوعية.
وكذلك الإذاعي الشهير “إدوارد مورو”، الذي لعب دوراً مهماً في الحرب العالمية الثانية، وكيف لعب ذلك الإذاعي دوراً مهماً في أيام الحرب الباردة، ولا حاجة لذكر القنوات المرئية وكيف تلعب دوراً من خلال برامجها الحوارية والإخبارية في التأثير والتوجيه.
اليوم بات الإعلام الحديث يأخذ زمام المبادرة والقيادة، ويكتسب أهمية مضاعفة غير مسبوقة، ومن الطبيعي أن نجد هناك علاقة بين السياسة والإعلام في الاستعطاف، بغية تحقيق الأهداف المراد الوصول إليها. والسؤال لم يَعُدْ كيف نؤثر بل مَن يُقرِّر؟
إنها قوانين اللعبة ذاتها وإنْ تغيرت طريقها وأدواتها.
فحلّ مكان الشاعر الوسيلة الإعلامية، تجدها اليوم تمدح جهةً ما وفي اليوم الثاني تذمّه، وتنتقل من جهة إلى أخرى معادية، ولم يعد المذيع أو الإعلامي فقط مذيعاً لنشرة إخبارية، أو مديراً لبرنامج حواريّ، بل تجده محارباً يرفع قلمه وصوته وصورته ضد حاكم أو دولة أو جهة ما، ويشتد التنافس بينه وزميله على الضفة الأخرى. وتجد الاستعطاف السياسي عند الكثير منهم.
ولم يقتصر الدور على الإعلامي فقط، بل هناك شخصيات دينية وسياسية واجتماعية، ينطبق عليها ما ينطبق على الإعلامي.
ولعل هناك مَن يقول كان ذلك في السابق وسيكون في المستقبل مثلما هو في الحاضر، فما المشكلة؟ نقول له: كان في السابق شاعراً، غايته بشكل عامّ فردية، ولكن اليوم يستخدمها السياسي الذي من المفترض ألا تكون غايته فردية..
من المحزن اليوم، أن نجد عدداً لا يُستهان به من المعارضة السورية، سواء رسمية، أو شِبه رسمية، تحولت إلى شعراء البلاط، تنتظر عين الرضا عليها، وتنشغل في تلك الفترة بهجاء غيرها من المعارضة على أنها هي الأحق والأجدر. والكلّ يستخدم الاستعطاف. والمشكلة الأكبر، أنه وهو يقف منتظراً عين على منافسه وعين أخرى يفكر على الجهة الأخرى التي يمكن الترحال إليها لكسب الرضا.
ولا يسعنا في هذا المجال سوى تذكُّر أغنية سيد مكاوي الشهيرة “علشان تعلا وتعلا لازم تطاطي تطاطي”.
المصدر: نداء بوست