قال العاهل الأردني عبد الله الثاني، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 سبتمبر/ أيلول الحالي، إنّ السلام ما زال بعيد المنال، وهو تحليل دقيق نظراً إلى الضعف العربي حيال التصعيد في الجرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين بعدم الاستعداد للتوصل إلى أيّ تسوية، أو حتى محادثات سلام وإن صورية، للتفاوض، ولا نقول القبول بالحد الأدنى للمطالب الفلسطينية. ويدل تصريح الملك على فهم للواقع السياسي من دون رتوش أو أوهام، لكنّ هذا الفهم لا ينعكس على السياسات الداخلية في الأردن ومعظم السياسات الخارجية، فمن غير المفهوم كيف يكون هناك استنتاج لصانع القرار أنّ إسرائيل لا تريد السلام، وما يحمله خطر هذا النهج الإسرائيلي على استقرار الأردن، في وقت يستمر التطبيع الاقتصادي والأمني مع الدولة الصهيونية، فيما يجرى تجاهل تداعيات التصعيد الأمني الداخلي ضد كل أشكال التعبير السياسي والنقابي في البلاد، والتدهور المعيشي واتساع الاستياء والغضب بين معظم فئات الشعب الأردني.
لا تفسير سوى أنّ هناك من يعمل على تفجير الوضع في الأردن، فالحكومة تغلق كلّ مساحات العمل العام والتعبير السياسي والنقابي، كما جاء استنتاج منظمة هيومن رايتس ووتش عن قمع حرية التعبير والتنظيم في كل مجالات العمل السياسي، في تقرير مُفَصَّل لها يؤكّد ما يعرفه معظم الأردنيين، من اعتقالات سياسية، وتقويض عمل النقابات، وشيطنة نقابة المعلمين، وتشجيع الانقسامات العمودية وتعميقها في المجتمع من إثارة النعرات الإقليمية، وتشجيع الاصطدام بين تيارات “مدنية” والحركة الإسلامية، على حساب نقاش تدهور الأوضاع المعيشية والحقوق والحريات.
مثال على ذلك الجدل حول مشروع قانون حماية الطفل، الذي تصدّى له الإخوان المسلمون ورموز في الحركة الإسلامية في مواجهة تيار علماني ومنظمات المجتمع المدني، فتحوّل الأمر إلى صراعٍ بين تيارين، ينشد كل منهما الانتصار الوهمي، على حساب نقاش جادّ وحقوقي لمسألة مهمة .. وهذا ليس موضوع المقال، وليس إثارة النقاش حوله، غير أنّ المعركة حول قانون الطفل شكلت نموذجاً لضياع المسائل الجوهرية، فاستنساخ قوانين من الخارج، من دون تجويد قانوني، و/ أو حتى كتابتها في الأردن بالاستعانة بدراسة القوانين العالمية، هو القصة نفسها لاستنساخ معظم القوانين والمعاهدات والاتفاقيات في الأردن، ولا تعني الإشارة إلى هذا الأمر تأييدي الطروحات المحافظة، لكنّ استرضاء الخارج يمنع تطوراً حقيقياً للمنظومة الحقوقية في الأردن، فيما جرى استثمار الجدل للتغطية على القمع في عمليةٍ تبدو ممنهجةً لمنع العمل العام وإجهاضه، إلّا في ما يتفق مع توجهات الدولة والأجهزة الأمنية، وهو يجعل بوصلة العمل العام والسياسي تنحرف عن مسارها، بما يدفع إلى مواجهات اجتماعية بدلا من مواجهة الفساد وحماية الوطن والمواطنين، لتأخذ الدولة تدريجياً دور العداء للمواطن، بدل أن تتعاون مع مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية والثقافية، لبناء جبهة داخلية متينة تتصدّى للخطر الصهيوني المتعاظم.
المفارقة أنّ أجهزة الدولة تستشهد بتطبيق القانون لتبرير التوقيف والاعتقال والمنع. لكنّها، حين يشتبك أفراد من أهم العشائر في الأردن على خلفية جريمة قتل ومحاولة الانتقام من القاتل، وحرق منازل وسيارات مواطنين لا علاقة لبعضهم بالنزاع، تبدو عاجزة عن تطبيق القانون، أو القيام باعتقالات، وهذا من بين أسباب كثيرة في أنّ الدولة فقدت هيبتها أمام العشائر، فتراجع القانون وسلطة الدولة يجعل الأفراد يلجأون إلى العشيرة لحمايتهم، ما يزيد من ضعف الدولة ومؤسّساتها، ويعزّز دور العشيرة سلباً لا إيجاباً.
تراجع الدولة في توفير الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والحمايات الاجتماعية، وحتى في مكافحة آفة المخدّرات الآخذة في الازدياد، إضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة، وَلّدَ غضبا بين الشباب في الأردن، بما في ذلك شباب العشائر، فالمسألة أنه لا ثقة بالدولة، ولا بسلطة القانون ولا بالعدالة؛ وسط أجواء انعدام الثقة يصبح أي مشهد دليل بدء انهيار الدول. ومن ذلك أن فاجعة انهيار البناية الأليم، في جبل اللويبدة وسط العاصمة عمّان، أحدثت ردة فعل تجاوزت التعاطف الإنساني مع ذوي الضحايا والمصابين، فأصبحت في أذهان كثيرين مؤشّرا على خللٍ في الدولة، وإنْ أشرف رئيس الوزراء بنفسه على عمليات الإنقاذ في الساعات الأولى لحدوث المأساة.
السياق الأوسع أكثر أهمية، إذ هناك فجوة بين ما يجرى ترويجه أنه عملية “تحديث” والقوانين المنبثقة عن هذا التحديث، فلم تتوقف الاعتراضات على قانون الأحزاب، فيما استمرّت الإجراءات الأمنية ضد النشطاء، والتعديلات “التراجعية” على قوانين الضمان الاجتماعي والمجلس الطبي، وكأن هناك يداً غير مرئية، أشد قسوة من التي تحدّث عنها المفكر الاقتصادي آدم سميث، لفرض “رأسماليةٍ أكثر وحشية” وتطبيقها في الأردن.
قد لا ينتبه أردنيون كثيرون إلى طبيعة الأزمة السياسية في بلدهم، ولكن تداعيات الإجراءات الاقتصادية القاسية طاولت بيوت أغلبية المواطنين، تهدّدهم في أمنهم وأمانهم. والغريب أن الدولة لم تُرضِ أيضا طبقة المستثمرين، إلا من له نفوذ، أي أن الاستياء والتذمر لا يقتصران على الفئات الأفقر، وإنما على ما تبقى من الطبقة الوسطى وبعض الشرائح العليا، فالخوف على مستقبل الأردن، أو الحنق على السياسات، لا يقتصر على المعارضة أو الحراك، بل تجاوزهما في السنوات القليلة الماضية إلى المسؤولين السابقين في الدولة، وإنْ كان يجب تحميل هؤلاء، بدرجات متفاوتة، مسؤولية تداعيات سياساتٍ صمتوا عنها أو شاركوا فيها.. ولكن الحال وصل إلى القلق الشديد بين أشد الموالين. وفي الوسع القول هنا إنه صحيح أن بعض أصوات من المحسوبة على السلطة تعارض بغرض ابتزاز القصر وتحقيق مكاسب لها، لكن الحقيقة أن أصوات بعض المسؤولين السابقين في العلن والسر تعبّر عن خوف حقيقي من اتساع الهوة بين الشعب والنظام، ومن خطر التطبيع مع إسرائيل.
عودة إلى بداية الحديث؛ لا يعتقد الملك عبد الله الثاني أنّ هناك سلاماً في الأفق، غير أنّ العملية الوحيدة التي تسير بيسر هي الاتفاقيات الاقتصادية مع الكيان الصهيوني، وأهمها استيراد الغاز الذي سرقته إسرائيل من الفلسطينيين وتبادل المياه المحلاة بالطاقة الشمسية وبوابة الأردن الصناعية، إضافة إلى سلاسة اتفاقية الدفاع الأميركية، إذ يدخل كل من يعمل في محطّات القاعدة الأميركية بصورة مرئية وغير مرئية، كما تشاء أميركا ومن دون اعتراض أو حتى عِلم أردني بالأسماء والمهمات.
تريد أميركا أن يستمر التطبيع مع إسرائيل بسلاسة، وهناك من يعتقد أنّ اتفاقية الشراكة الاستراتيجية تضمن حمايةً للأردن. قد يكون مقابل هذا التطبيع لوضع غير طبيعي هو الاحتلال، كأنّه لا يوجد خطر إسرائيلي أو احتقان داخلي، فيما يُعتقل شاب في مقتبل العمر اسمه أنس الجمل، من عائلة مكافحةٍ كان يأمل تأمين تكاليف الدراسة الجامعية، ويُسجن بتهمة “الإساءة إلى دولة أجنبية” هي إسرائيل… يتنقل أنس بين السجن والمستشفى، في اختصار لمشهد يخلط بين العدو والصديق، مشهد محير ومحزن لمن يخاف على سلامة الأردن. لكن هل هناك من يسمع همسات القلق وصرخاته قبل أن يفوت الوقت؟
المصدر: العربي الجديد