مع التدهور الشامل للاقتصاد السوري خلال السنوات العشر الماضية، وتراجع الإنتاج، أو توقفه في كثير من الميادين الحيوية المدرة للمال، وخاصة النفط والزراعة، تثار تساؤلات حول مصادر الدخل المتاحة للنظام السوري، والتي تمكنه من مواصلة الإنفاق على موظفيه وجيشه وقواته الأمنية، فضلا عن تقديم الخدمات المدنية في مجمل القطاعات، ولو بالحدود الدنيا.
وتشير كثير من المعطيات إلى أن النظام بات يعتمد اليوم بشكل متزايد على الديون والمبادلات مع حليفيه الإيراني والروسي، ولكن اعتماده الأهم على جملة من المصادر غير المشروعة مثل المخدرات والتهريب والنهب “التعفيش” والابتزاز، بما يشبه النشاط المافيوي (الاقتصاد الأسود) أكثر منه اقتصاد الدولة بمفهومه التقليدي.
وشكلت سنوات الحرب وعاء واسعا لإنتاج طبقة جديدة من الأثرياء استعان بها النظام لتأمين مستلزمات بقائه، فمنحها كل الامتيازات لمراكمة الثروة خلال سنوات قليلة بكل الطرق غير المشروعة، مقابل مده بالدعم المالي وتمويل مليشياته المسلحة.
واستغنى بذلك عن طبقة رجال الأعمال القديمة التي خدمت النظام في أوقات سابقة، لكنها تنحدر في معظم الأحيان من أسر معروفة بنشاطها الاقتصادي، وبنت ثرواتها من خلال العمل المنتج والقانوني غالبا، ويصعب عليها تاليا أن تكون مجرد أداة رخيصة عند أصحاب القرار الأمني، كما هو حال الطبقة الجديدة التي كونها النظام من العدم، وباتت تدين له بكل شيء، وهي مستعدة للقيام بكل الاعمال القذرة التي تترفع عنها البرجوازية التقليدية في سورية.
اقتصاد المليشيات
يقول العميد المنشق فاتح حسون قائد “حركة تحرير الوطن” إنه بفقدان النظام لأهم المناطق المنتجة للغلال الزراعية والنفط، وتوقف معظم الإنتاج الصناعي وحركة المعابر البرية والمرافئ البحرية وقطاع النقل، ضاقت إيرادات النظام كثيرا، وفاقم الأمر العقوبات الدولية المفروضة عليه، فراح يبحث عن بدائل، مفسحا المجال أمام جميع المليشيات والوحدات العسكرية لتأمين موارد ذاتية لحساب القادة والمتنفذين بعد تراجع قيمة الرواتب أمام غلاء المعيشة.
وحسب حسون، انتعش اقتصاد الظل عبر جملة من الممارسات منها ابتزاز المطلوبين للنظام والتي أصبحت تجارة واسعة بعد أن يتم إيهام الأشخاص أنهم مطلوبون لجهات أمنية، فيضطرون لدفع أي مبلغ مقابل تسوية أوضاعهم أو تهريبهم للخارج، وهذه أمور قد تبدو ثانوية في اقتصاد الدولة، ولكنها مهمة جدا في الوضع السوري الحالي، حيث تساعد النظام على جعل الحركة المعيشية تجري بشكل قابل للحياة وتمنع أي تمرد محتمل من الموالين، وتخفف على النظام الكثير من الأعباء.
وأضاف في حديثه مع “العربي الجديد” أن الأمر نفسه قائم في القطاع المدني حيث يغض النظام “الطرف عن الرشى التي أصبحت ملح البلاد، ولم يعد الموظف يخجل من طلبها أو يخشاها، حتى أنه بات يفرضها على المواطن الذي تعود على دفعها ولا يرى في ذلك حرجا، مع إدراكه أنه غير قادر على إنهاء أية معاملة حكومية إذا لم يدفع المعلوم كما يسمونها في سورية، أي أنها رشوة معلومة وغير مخفية”.
كما يشير حسون إلى أن أملاك المهجرين باتت “مورداً مهماً لسلطات الأمر الواقع، حيث كثير من القرى التي هجرها أهلها، يجري استثمار أراضيها الزراعية عن طريق القيادة الأمنية في المنطقة، ويمنع على أصحابها إن كانوا ما زالوا في سورية دخولها”.
كما حجزت سلطات النظام على “الكثير من العقارات السكنية والتجارية، وأوكلت استثمارها لمقربين منها بعد تجريم أصحابها بتهم شتى، دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم”. وينسحب الأمر، حسب حسون، على “كثير من المصانع والورش التي تمت السيطرة عليها او احتجازها وجرى تأجيرها او استثمارها من قبل مليشيات أو أشخاص يتبعون للسلطات الأمنية”.
كما يلجأ النظام إلى فرض رسوم باهظة على أية خدمات يفترض أنها روتينية مثل إصدار جوازات السفر التي باتت تشكل مصدرا هاما لخزينة النظام، خاصة أن الكثير من الناس يحتاجون لهذه الوثيقة ويرغبون في مغادرة البلاد، إضافة إلى السوريين المهجرين الذين يحتاجون إلى وثائق سفر تمنحهم حرية التحرك، فيفرض عليهم النظام رسوما تعد الأعلى في العالم رغم أن الجواز يمنح حامله السفر إلى دول محدودة جدا”.
وختم حسون بالقول إن المخدرات تأتي في مقدمة مداخيل للنظام، وتتعهدها “الفرقة الرابعة” بالمشاركة مع المليشيات الإيرانية في التصنيع والاتجار. ووفق تقديرات دولية، فإن النشاط المرتبط بتجارة المخدرات في سورية تزيد قيمته عن 3 مليارات دولار سنويا.
نهب التحويلات والتجارة بالمعتقلين
وأكد رامز علي (اسم مستعار لأسباب أمنية) وهو رب أسرة يعيش في مدينة دمشق على حوالات تأتيه من أخيه المغترب في هولندا في حديث لـ”العربي الجديد أن المبالغ التي تحول له بالدولار يذهب أكثر من ربعها بين أجور تحويل وفرق سعر الصرف، إذ تسلم الحوالة له بالعملة السورية وبسعر أقل من سعر الصرف بالسوق السوداء، واضاف لا يوجد سعر محدد للخصم ولكن دائما يزيد عن ربع قيمة الحوالة.
فيما يؤكد سامي البوشي الذي ترك دمشق ولجأ إلى تركيا مخلفاً ابنه المعتقل لدى النظام في حديث لـ”العربي الجديد” لقد دفعت نحو 17 ألف دولار حتى الآن لضباط من فرع المنطقة مقابل وعود بإطلاق سراح ابني ولكن دون أن أعرف شيئاً عنه حتى الآن.
وأضاف: لقد دفعت مبلغ سبعة آلاف دولار حتى تمكنت من الخروج من دمشق، وبعدها دفعت 12 ألف دولار لضابط في فرع المنطقة مقابل وعد بإطلاق سراح ابني، دون أن يتم الإفراج عنه وبعدها دفعت خمسة آلاف دولار ثمن صورة لابني تثبت بأنه لا يزال حيا وإخباري عن مكان وجوده.
أمراء الحرب والإتاوات
يشير الصحافي الاقتصادي محمد عيد إلى مصادر أخرى لدخل النظام ومليشياته، ومنها حوالات السوريين من الخارج حيث للبنك المركزي حصة تدفعها شركات التحويل عن كل حوالة. ووفق أرقام رسمية تقدر حوالات السوريين في الخارج بين 5 و7 ملايين دولار يوميا بما يزيد عن مليار ونصف المليار دولار سنويا.
وأضاف عيد في حديثه مع “العربي الجديد” أن سلطات النظام تفرض أيضا ضرائب عديدة على مجمل التعاملات داخل سورية، مثل البيوع العقارية التي تفرض على البائع والشاري، إضافة إلى ما يستولي عليه النظام من المساعدات الدولية مثل الأمم المتحدة والصليب الأحمر، فضلا عما يصله من مساعدات خفية من بعض الدول غير روسيا وإيران، ومنها بعض دول الخليج العربي، وفق قوله.
أما روسيا وإيران، فإن أغلب تعاملات النظام معهما تتم على أساس المبادلة وسداد الديون، حيث مقابل “خط الائتمان” الإيراني لتزويد النظام بالنفط، استولت طهران على مرفأ اللاذقية بينما يدير الروس مرفأ طرطوس، فضلا عن استثمارات الجانبين فيما تبقى من ثروات طبيعية في البلاد، وأهمها الفوسفات في وسط البلاد الشرقي.
وأشار عيد إلى أن العديد من رجال الأعمال الجدد هم في علاقة تبعية كاملة مع هاتين الدولتين ويخدمون مصالحهما، بينما آخرون يشكلون الأذرع المالية للنظام مثل بو علي خضر، الواجهة الاقتصادية الجديدة للقصر الجمهوري وأسماء الأسد والفرقة الرابعة، والذي حل مكان قريب رئيس النظام رامي مخلوف.
وأوضح أن العلاقة بين رجال الأعمال الجدد والنظام، باتت تقوم اليوم بشكل واضح على “الزبائنية”، وكلما اقتربوا من أصحاب القرار، تكبر ثرواتهم، بغض النظر عن طبيعة نشاطهم الاقتصادي، سواء كان مشروعا أم لا؟
كما يعتمد النظام وفق عيد، على جملة من الأنشطة غير المشروعة لتأمين تمويل ذاتي لقواته ومليشياته، حيث تمثل “الفرقة الرابعة” التي يديرها ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام، مثالا واضحا على هذه الأنشطة سواء عبر تجارة المخدرات التي تديرها بالتنسيق مع حزب الله، أم عبر حواجز “التعفيش” والابتزاز المالي التي تنشرها الفرقة في طول البلاد وعرضها، ولا تمر أية بضائع من مكان إلى آخر، داخل البلاد، دون أن تدفع إتاوة لحواجز الفرقة.
يؤكد الصحافي فؤاد عبد العزيز على هذه الفكرة بقوله إن “الدولة” بمفهومها السابق، أي قبل عام 2011، لم تعد قائمة في سورية منذ سنوات، وباتت صلاحياتها موزعة اليوم على مجموعة من “مراكز القوى” الأمنية والاقتصادية
ولاحظ عيد أن ميزانية حكومة النظام لعام 2022 التي أقرت نهاية العام الماضي بلغت نحو 5.3 مليارات دولار، مع عجز زاد عن خمسين بالمئة وفق الأرقام المعلنة، متسائلا عن الأبواب الشرعية المتاحة أمام النظام لتغطية هذا العجز، علما أن الصادرات من كل السلع كانت العام الماضي أقل من 700 مليون دولار، معظمها من الخضار والفواكه.
وختم عيد بالقول، إن ما هو قائم في سورية اليوم لم يعد دولة فيها مؤسسات ولو ضعيفة، بل مجموعة جزر اقتصادية معزولة، مع حد أدنى من الإدارة المركزية، بحيث تتدبر كل منطقة نفسها بنفسها، مع دفع حصة للنظام ورموزه، مقابل تسهيلات يقدمها، وغض نظر عن الأنشطة غير المشروعة.
ووصف الاقتصاد السوري بأنه مشوه بعد أن تحولت معامل القطاع العام إلى خردة، بينما فكك القطاع الخاص ما استطاع من معامله ونقلها إلى تركيا ومصر والأردن. كما دمرت الحرب معظم الجسور والطرق والخطوط الحديدية، في حين تراجع إنتاج الكهرباء بنسية 70 بالمئة، وكذلك الغاز والنفط.
مراكز قوى
يؤكد الصحافي فؤاد عبد العزيز على هذه الفكرة بقوله إن “الدولة” بمفهومها السابق، أي قبل عام 2011، لم تعد قائمة في سورية منذ سنوات، وباتت صلاحياتها موزعة اليوم على مجموعة من “مراكز القوى” الأمنية والاقتصادية التي لها رعاية خارجية، وإن كانت ما زالت تستظل شكليا بمظلة “رئيس النظام” الذي لا يسيطر فعليا، حسب مصادر مطلعة، على كل هذه المراكز، خاصة أنها تستقوي عليه بالدعم الخارجي، من الجهات نفسها التي تدعمه هو، حتى بات هو نفسه مجرد واحد من مراكز القوى.
ويضيف عبد العزيز في حديثه مع “العربي الجديد” أن جميع القوى المتنافسة، المحلية منها والخارجية، تتفق على عدم المس بـ”رمزية”، رئيس النظام حتى لا يغرق المركب بهم جميعا.
المصدر: العربي الجديد