قراءة في رواية: مسرح العمى

أحمد العربي

أحمد خميس كاتب سوري متميز، مسرح العمى هي الرواية الاولى التي اقرؤها له.

مسرح العمى رواية صادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول، يخبرنا كاتبها  مقدمتها أنه ينتصر بروايته للعلاقات الإنسانية الإيجابية، متحدثا عن العميان المكفوفين  المنتصرين على عماهم.

تبدأ الرواية من حدى مدن أمريكا حيث يتواجد فيها مجموعة من الأصدقاء تجمعهم اصولهم المشرقية العربية، رغم أنهم ممن يعيشون في امريكا منذ اكثر من عقدين. عطا السوري الأصل الذي غادر مع والده مدينته الرقة وهو طفل واستقروا في أمريكا. كذلك بطرس اللبناني الأصل الذي جاء مع عائلته منذ أكثر من عقدين هاربين من الحرب الأهلية هناك، و نوح المصري الأصل. وسارة الأردنية الأصل، وغازي الذي يحارب مرض السكر الذي أدى لبتر ساقه و تركيب ساق صناعية بدلا منها…

كانوا مجموعة منسجمة متوافقة متوادة، يجمعهم حب المسرح، ويطمحون أن يكون لهم مسرحيتهم الخاصة وان ينجحوا فيها، ويسيروا في طريق يؤدي للشهرة والمال والحياة المريحة.

التقوا بممول امريكي أعمى طرح عليهم مساعدتهم في تمويل مسرحية وجعلهم يمثلونها على أفضل المسارح في مدينتهم ، بشرط أن تكون من ابداعهم وتطال حياة العميان ومعاناتهم وحياتهم وما يعيشون، هي لفتة انسانية رائعة.

عكف الأصدقاء الخمسة على تأليف النص المطلوب ومن ثم التفكير كيف يتم التدريب عليه وتمثيله بعد حين.

كان الممول الأمريكي الكفيف على تواصل معهم دوما يدعمهم معنويا ويوصلهم إلى أفضل الممثلين والمخرجين، بحيث يقدمون لهم المشورة المطلوبة لينجحوا في عملهم.

تسير الرواية في ثلاث مسارات متوازية أول الأمر ثم تتقاطع مع بعضها لتكوّن عمارة الرواية.

المسار الأول هو المسار الأساسي للرواية الذي يرصد حياة عطا واصدقاؤه بطرس وغازي ونوح وسارة. عطا الانضج بينهم، الاكثر اطلاعا، والأكثر ثراء، بيته مفتوح لهم كل الوقت، ومكتبته عامرة، والده تاجر كبير، صحيح انه كان مجرد سائق فقير أيام كان في سوريا، من مدينة الرقة حيث عمل في التهريب بين سوريا وتركيا والعراق، وكذلك في التنقيب عن الآثار وبيعها، بحيث كانت بداية ثراءه الفاحش. ومنذ خمس وعشرين عاما جاء إلى أمريكا مصطحبا معه ابنه الصغير عطا واستقر بها. لعطا عقدة في حياته، انها فقدانه لأمه منذ طفولته، ابوه يقول له ان أمه توفيت بعد ولادته، وتارة يقول له انها توفيت وعمره سنتين، يتذكرها، ويعتقد أن والده يخفي عنه أمرا، ولذلك يقاطعه ولا يتواصل معه الا نادرا، اما والده فقد صبر عليه وأحضر له مربية منذ طفولته عوضت له عن أمه، ومع ذلك استمر يعيش غصة في نفسه حول أمه وما مصيرها، واستمر يحمّل أباه المسؤولية. باقي أفراد المجموعة كانوا متلائمين و ملتفين حول عطا بحب وألفة ، غازي رغم مشاكله الصحية من السكري وساقه المبتورة تعامله سارة بمودة متميزة، وتراه الحب المناسب لها، وكذلك هو…

المسار الآخر في الرواية هو مسرح العمى النص الذي عكفت على كتابته المجموعة والذي يدون لهم قصة سيكون عليهم تحويلها إلى نص مسرحي وعليهم تمثيله.

تبدأ القصة من يونس الطفل الصغير الذي ادرك ذاته في الدنيا وانه فاقد للبصر، يعيش علاقته مع العالم وفق حواسه الأخرى، كان يعيش في كنف والده ووالدته، الذين يعيشون في شبه غابة، اهتمامهم به وحبهم له جعله يتقبل فقدان بصره، يحاول أن يكتشف العالم حوله. كان يخرج إلى الغابة المحيطة بهم، يتحسس حوله كل شيء، يقع في بعض الحفر، يتوه احيانا عن البيت، تبحث عنه امه واباه ويجدانه دوما، لا يؤنبانه لكنهما يوضحان له خطورة ما يفعل، لكنه لم يستسلم لمشكة العمى عنده، استمر يتحدى عدم ابصاره ويقوّي بصيرته ويلتقط معالم المحيط حوله. استمرت حياة يونس كذلك حتى التقى بخاطرة، الفتاة التي كانت تسكن قريبة منهم في ذات الغابة، خاطرة كانت تعيش في كنف والدها ووالدتها، توفي والدها قبل فترة، وبعد وقت غادرت والدتها البيت مع عشيقها وتركتها وحيدة. عرف والد يونس ووالدته بحال خاطرة فقرروا تبنيها ونقلها الى بيتهم، وأصبحت ابنتهم اضافة الى يونس. اكتشف يونس بخاطرة العالم الذي كان يفتقده، الصحبة والتفاعل، كانوا في بداية سن المراهقة لذلك كان الحب بينهما برعما تولد وكبر مع الوقت. كان لدى عائلة يونس بعض الحيوانات الاليفة التي يستعينون بها على تسيير حياتهم. تعلمت خاطرة بعض المهام في رعاية البيت وهذه الحيوانات وبدأت تساعد والدة يونس، هذا غير تجوالها مع يونس في الغابة كل الوقت، والحديث معه، تفتح ذهنه وذهنها على الحياة من خلال ما يعيه ويدركه يونس الأعمى وما تعيشه خاطرة المبصرة. استمر ذلك حتى مرضت والدة يونس ومن ثم توفيت، كان ذلك قاسيا جدا على الاب ويونس وعلى خاطرة ايضا، وبعد وقت استطاعت خاطرة ان تغطي غياب الوالدة وان تقوم بكل الأعمال المطلوبة، وبعد وقت قام والد يونس بتزويج يونس وخاطرة وعاشا حياة سعيدة هانئة…

هنا ينتهي النص الذي سيكون مادة المسرحية التي يعمل عليها عطا واصدقاؤه.

أما المسار الثالث للرواية فهو يتحدث عن حسن الكفيف ابن الرقة القادم منها بعد الثورة السورية عام ٢٠١١م، حيث شارك فيها متظاهرا و معتقلا ثم هاربا من النظام ومن إرهاب داعش ومن قنابل التحالف الدولي. حسن كفيف لكنه يحمل شهادة عالية في اللغة العربية ويتقن لغتين اخريتين ايضا، وهو مختص في لغة براون للمكفوفين ومختص في تنقيح النصوص الأدبية والروائية. وصلت رحلة لجوء حسن  إلى أوسلو في النرويج، هو على موعد مع دار نشر عربية هناك، قدم السي في الخاص به للتوظيف عندهم مدققا لغويا لاصداراتهم باللغة العربية. استقبله راكان العربي ومعه موظفة اخرى، كانت مقابلة روتينية، وتوظف على اثرها مدققا لغويا بأجر مجزي. حسن نموذج للكفيف الذي استطاع الانتصار على عماه وان يتفوق في مجاله، واستطاع ان يصنع له حضور وكاريزما جعلته متميزا حيث يوجد، بحيث لم يعد يمثل عماه عائقا عن تواصله الإيجابي مع المحيط. كان في دار النشر فتاة اسمها ماري، ساعدت حسن كثر من مرة في الدخول الى الدار حيث تتعسر عصاه التي تساعده في مسيره بالباب الدوار للدار . ومع الوقت حصل ود بين ماري وحسن، وتفاعل وعلاقة تطورت لتصبح حبا. يتوج بزواج لاحقا.

وصلت رواية مسرح العمى إلى دار الطباعة التي يعمل بها حسن، وبعد الاطلاع عليها، وجد فيها كثيرا منه ومن شخصيته. فقرر ان يسافر الى امريكا حتى يلتقي بفريق عطا ويتبادل معهم الرأي حول مسرحيتهم التي يودون تمثيلها والأساسي فيها موضوع العمى وحياة العميان.

الى هنا لا بد من ربط المسارات الثلاث للرواية في بعضها.

عطا يمتنع عن التواصل مع والده ويطالبه معرفة حقيقة مصير امه، ورواية مسرح العمى تصل الى حسن الذي يأتي الى أمريكا من أوسلو في النرويج ليتحدث مع فريق المسرحية. عند هذا المفصل يقرر والد عطا أن يكشف عن خيوط صنعها لتصل الامور الى ما وصلت اليه.

هو الثري الذي قرر أن يساعد ابنه وفريقه على الكتابة والتدريب ليصنعوا مسرحيتهم الخاصة، هو من دفع بالممول الأمريكي الكفيف ليدعم عطا وأصحابه. وليعرف عطا وصحبه أن الممول يعمل معه، وانه ليس كفيفا بل مثّل ذلك عليهم. وتحدث والد عطا لابنه عطا عن عمله ايام كان في الرقة وأنه كان يبحث عن الآثار مع والدته التي كانت شجاعة وجسورة، وانها اصيبت برصاصة في رأسها من حرس الحدود بين سوريا وتركيا وماتت ودفنت في تل ابيض جوار الرقة. وأنه غادر منذ ذلك الوقت الى أمريكا وعمل وصنع مجده الاقتصادي ليعوض ابنه عطا عن فقدان امه، وانه هو صاحب المطبعة التي يعمل بها حسن وماري والاخرين وانهم كلهم يمثلون بعضا من فريقه الرائع الذي يعتز به. عرفهم بعد ذلك على افضل المخرجين السينمائيين وقرر ان يحوّل قصة مسرح العمى الى عمل سينمائي، نجح الفيلم وحصل على جوائز الأوسكار، وحصل الوداد المطلوب وتجاوز عطا أزمته النفسية تجاه والده وعادت العلاقة بينهم لأفضل حال، لم ذلك ليحصل ما قبل ان يذهب عطا الى تركيا ومنها إلى تل أبيض على الحدود  السورية وزيارة اقرباء والده ووالدته وزيارة قبر امه.

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

نحن أمام رواية ذات رسالة انسانية بالعمق وفي مسارها السردي، انها محاولة ناجحة في الغوص عميقا في عالم المكفوفين، اعادة وضع قضيتهم تحت الضوء، وانهم ليسوا اصحاب عاهات اذا تم التعامل معهم بانسانية وأخذوا حقهم من الاهتمام والتعليم والتوجيه، انهم ينجحون في أي عمل يقومون به ويتفوّقون أيضا. كما تسلط الرواية الضوء على العمق العقلي والنفسي والوجداني داخل ذات المكفوف وسبر أغواره، بحيث جعلتنا الرواية أقرب لما يعيشه المكفوف في اعمق اعما قه.

ليس هامشا التحدث عن الخماسي الأصدقاء ذوي الأصول العربية المتواجدين في امريكا مع عائلاتهم منذ عقود، وانهم يشكلون تكتلا إنسانيا رائعا، وكأنهم وهم هناك في غربتهم ينتمون في أعماقهم الى اوطانهم الاصلية وينتصروا لقضاياها العادلة.

كما ليس هامشا حضور الرقة المشاركة بالثورة السورية والتي انتجت متميزين و المكفوفين منهم، وإن ظلم النظام والإرهاب والحلفاء المدّعين نصرة السوريين ومحاربة داعش، ساهموا في تشريد أهل الرقة وسوريا كلها ايضا في كل بقاع الارض. لكن اللجوء والهروب لا يلغي امتياز هؤلاء السوريين ومواهبهم و عطاءاتهم التي تفتحت زهور فواحة وتفوقا في كل المجالات في جميع أنحاء العالم…

هكذا ينتصر السوريون في إنسانيتهم حيث يكونون؛ خاصة ان توفرت حياة حرة كريمة وعدالة وفرصة عمل لبناء حياة أفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى