بات مصير التفاوض على الملف النووي الإيراني على رأس الأولويات الموضوعة في الأجندة الدولية، وربما لا تفوقه في الأهمية سوى مسألة الغزو الروسي لأوكرانيا، والتداعيات الناجمة عنها، بخاصة العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، وأزمة امدادات الطاقة والغذاء، والتغييرات، أو الكوارث، البيئية والمناخية.
بيد أن وجود الملف النووي الإيراني على رأس الاهتمامات الدولية لا يعني أن ثمة يقيناً بشأن توصل الأطراف المعنية إلى حل بشأنه، على غرار ما جرى في العام 2015، إذ لا يشكل وجود جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة أي معنى إيجابي في هذا الاتجاه، سواء لكونه كان نائباً للرئيس لحظة توقيع الاتفاق السابق، أم لكونه يتبنى توجهات سياسية مختلفة عن تلك التي انتهجها سلفه دونالد ترامب، الذي كان جمد العمل بالاتفاق السابق (في العام 2018) وأعاد فرض العقوبات على إيران.
أيضاً، ليس بالضرورة أن الأوضاع ستسير باتجاه إعادة العمل بالاتفاق السابق، أو التوافق على اتفاق جديد، تحت ضغط حاجة العالم الشديدة الى مصادر أخرى للطاقة، لا سيما أوروبا، للتعويض عن امدادات الطاقة من روسيا، التي توقفت بسبب العقوبات المفروضة عليها، بعد غزو أوكرانيا.
في الواقع ثمة معطيات دولية مختلفة ومعقدة لا تسهل التوافق على الملف النووي الإيراني، بين الأطراف المعنية، بخاصة الولايات المتحدة وإيران، في الآتي أهمها:
أولاً، لم تعد المشكلة مع إيران تتعلق فقط بمحاولتها تملك قوة نووية، إذ هي أضحت، أكثر من السابق، تتعلق أيضاً بتزايد، أو بتغول نفوذها في بلدان المشرق العربي (العراق وسوريا ولبنان) واليمن. وإذا كان تم لإسرائيل (وللولايات المتحدة) توظيف هذا النفوذ، أو التسامح معه، سابقاً، بشكل غير مباشر، بما يخدم سياساتها، في إثارة الاضطرابات، وفي تصدع بني الدولة والمجتمع في تلك البلدان، بحيث تصبح في أمان استراتيجي في المنطقة لعقود، وكالدولة الأكثر استقراراً وازدهاراً في المنطقة، فإن هذا التوظيف وصل إلى حدوده القصوى، وآن الأوان لتحجيمه، لا سيما أن المسألة باتت تتعلق، أيضاً، بمحاولة إيران تملك ترسانة أسلحة صاروخية، وبأنها تحاول توزيع هذه الترسانة في كل مكان تتواجد فيه الميليشيات التي تعمل كأذرع إقليمية لها في لبنان والعراق وسوريا واليمن؛ وهذا ما يفسر توالي الضربات الإسرائيلية على قواعد إيران وميليشياتها في سوريا، وعلى شحنات أسلحتها ومستودعاتها.
ثانياً، بات وضع النظام الإقليمي العربي اليوم أقوى مما كان عليه في العام 2015، إزاء الاملاءات الأميركية، إذ إن معظم أطراف ذلك النظام، التي كانت لا تستطيع شيئاً بسبب الخلافات مع الولايات المتحدة في فترتي الرئيسين بوش الابن وأوباما، باتت اليوم أكثر قدرة على فرض ما تريده، وفقاً لما تراه مناسباً لتعزيز مكانتها وأمنها والدفاع عن مصالحها. ولعل قمة جدة التي جمعت الرئيس جو بايدن مع قادة عدد من الدول العربية (تموز/يوليو الماضي)، وفقاً للمداولات التي تسربت عنها، أوضحت هذه الحقيقة، في ما يتعلق بضرورة أخذ الولايات المتحدة بمصالح الأمن القومي العربي، وضمنها تحجيم طموحات إيران، وعدم التساهل معها (كما حصل في عهد إدارة أوباما)، بحجة الملف النووي، واعتبار أن خطر تزايد النفوذ الإقليمي لإيران لا يقل عن خطر تملكها للقوة النووية.
ثالثاً، ثمة العامل الإسرائيلي، إذ إن إسرائيل، أيضاً، باتت في مقدم القوى المعترضة على رفع العقوبات عن إيران، وباتت في موضع تأثير أكبر في الإدارة الأميركية، بالقياس الى وضعها إبان إدارة أوباما، لا سيما أنها باتت تستمد بعضاً من قوتها من امتداداتها في العالم العربي، بعدما استطاعت إقامة علاقات جديدة مع عدد من العواصم العربية، التي رأت أنها استطاعت عقد نوع من منظومة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية معها تحت ضغط المخاوف الناشئة من النفوذ الإيراني في المنطقة.
رابعاً، ثمة في الولايات المتحدة وجهة نظر تؤكد ضرورة عدم مكافأة إيران برفع العقوبات المفروضة عليها، والتعامل معها باعتبارها داعمة للإرهاب، لأن غير ذلك سيعزز من قوتها، ويزيد نفوذها في الشرق الأوسط، على الضد من المصالح الأميركية الاستراتيجية.
في المقابل، ومن جهة إيران، فإن الوضع بات مختلفاً أيضاً، على رغم أن أي اتفاق يمكن أن يؤدي إلى ضخ مئات مليارات الدولارات المجمدة في البنوك الأجنبية، وفقاً للعقوبات إلى خزينتها، كما أن ذلك قد يتيح لها تحرير صادراتها من النفط والغاز، وزيادتها، وكل ذلك يخدم مصلحتها في النهوض بأوضاعها، وتحسين مستوى المعيشة فيها.
بيد أن إيران لا تريد عقد أي اتفاق، أيضاً، فهي ترى نفسها في موقع قوة، أولاً، بالنظر إلى أن العالم بحاجة لإمدادات الطاقة منها، لتغطية النقص من القطيعة مع امدادات الطاقة من روسيا. ثانياً، لأن ثمة مصلحة للغرب، ربما باعتقادها، لاستمالتها إلى جانبه، بدل أن تصطف إلى جانب روسيا في الصراع الدولي الدائر حالياً، أي أن صانع القرار الإيراني بات يربط التفاوض على الملف النووي بالصراع الدولي الدائر حالياً. ثالثاً، تبعاً لما تقدم فإن إيران وجدت لديها الفرصة في هذه الظروف لوضع شروط على أي اتفاق قد يتم عقده، من ضمنها، تقديم الولايات المتحدة ضماناً بعدم التراجع عن ذلك الاتفاق في حال تغيرت الإدارة الأميركية، والتعهد برفع العقوبات فوراً، وفصل الملفات عن بعضها بعضاً، أي عدم الضغط على إيران بخصوص قوتها الصاروخية أو نفوذها الإقليمي.
هذه هي المتغيرات التي قد تعوّق، أو تمنع، توصل الأطراف المعنية الى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني، وهذا ما يفسر كل هذا التأخير في إعلان أي نتيجة، سلباً أو إيجاباً، وعلى كلٍ فإن الأيام الآتية ستبين إلى أين ستذهب الأمور من هنا.
المصدر: النهار العربي