الإدارات المتعاقبة منذ 11 سبتمبر 2001 وربما منذ انتهاء الحرب الباردة في 1990 غيرت مواقفها بشكل دراماتيكي تجاه شركائها الإقليميين.
من أهم وأدق ملفات السياسة الخارجية لدى دول الشرق الأوسط والعالم العربي المتحالفين تاريخياً مع الولايات المتحدة، ملف التأقلم مع السياسات الأميركية المتقلبة تجاه المنطقة، والتعاطي مع واشنطن قبل وبعد تغيرات كهذه. وأحد هذه التحديات التي تواجه القيادات والسياسيين والإعلاميين وهيئات المجتمع المدني من المحيط إلى المحيط، هو تفسير تلك التغييرات للرأي العام في الدول الشرق أوسطية والعربية. وكما كتبت في مقال الأسبوع الماضي، فإن نظرية “المؤامرة الأميركية” أكان ذلك مع إيران أو “الإخوان”، سرعان ما تشتعل وتنتشر في كل مرة يشعر الجمهور أن واشنطن تخلت عن دولة عربية أو إقليمية أو وقفت إلى جانب طهران أو “القوى الإسلاموية”. وكما كتبنا أيضاً، فالقوى الراديكالية سرعان ما تنقض على الساحة الإعلامية والسياسية وتسعى فوراً لهدم الجسور بين الولايات المتحدة بمجرد حدوث تباينات بوجهات النظر. والمفارقة أن الراديكاليين أكانوا إيرانيين أو إخواناً أو “قومجيين”، يثبون لإيقاع التفرقة بين أميركا وشركائها من أجل إضعاف الطرفين.
المحاور التي لا تشبع
إلا أنه في المقابل، فالإدارات الأميركية منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وربما منذ انتهاء الحرب الباردة في 1990 غيرت مواقفها بشكل دراماتيكي تجاه شركائها الإقليميين، ولا سيما منذ 2009 مع إدارة باراك أوباما، دافعة بأصدقائها في المنطقة إلى التساؤل وأحياناً إلى التفكير في خيارات صعبة أيضاً. فكما كتبنا سابقاً التغيير في السياسة الخارجية الأميركية كان يتفاعل مع ثلاثة أطراف. الفريق الذي كان يريد هذا التغيير كالنظام الإيراني وحلفائه كنظام الأسد، ومحور قطر وتركيا، أو القوى القومية البعثية، كانوا يشجعون على المسارات الأميركية التي أفادت أجنداتهم ولكن في المقابل، باستثناء قطر، لم يثنوا على مواقف واشنطن المفيدة لهم، لأنهم اعتبروا أن أميركا كانت على خطأ وهي تصلح أخطاءها. ومما رددوا أن الإدارات، ولو نفذت ما تريده هذه المحاور، فهي لم “تقم بما فيه الكفاية”.
وقد تميزت طهران ودمشق بمثل هذا الموقف المتشدد، وأحيانا أيضاً حكومات الـAKP (حزب العدالة والتنمية) في إسطنبول. الجمهورية الإسلامية كانت دائماً معادية لما سمته “الشيطان الأكبر” ولم تغير موقفها حتى منذ توقيع الاتفاق النووي في 2015. أما حركة “الإخوان المسلمين” فعلى الرغم من حصولها على الدعم الكامل من إدارة أوباما منذ خطابه الشهير في القاهرة في 2009، وعلى الرغم من تفضيلها على غيرها خلال ما يسمى “الربيع العربي”، فالحركة استمرت في مهاجمة أميركا بقوة في الإعلام، ومن على منابر قناة “الجزيرة”. هذه المحاور التي تتموقع عقائدياً وتاريخياً ضد الولايات المتحدة منذ عقود لم “تشبع” من تنازلات إدارتين في واشنطن لهم، بل وضعت كل إمكاناتها لدفع هذه الأخيرة باتجاه مزيد من التنازل وباتجاه مزيد من الضغط على شركائها التقليديين.
كيف رد الحلفاء على “التكويع”
عندما حادت إدارة أوباما وإدارة جو بايدن عن التضامن الثابت والوثيق بين أميركا وحلفائها في الشرق الأوسط، عبر الشراكة الجديدة مع إيران والإخوان منذ 2009، وبعد أن بدأت الإدارة الأولى، مباشرة أو بشكل غير مباشر، بالضغط على خصوم الاثنين للتراجع، حصلت عدة ردات فعل لهؤلاء الشركاء الذين تم “التخلي عنهم”. أول ردة فعل كانت بالصدمة، عندما انطلق التحاور بين واشنطن وطهران حول الوصول إلى اتفاق نووي منذ 2010. والصدمة نفسها حصلت مع تسهيل سيطرة الإسلامويين في شمال أفريقيا وبعض مناطق المشرق. فقد صُدمت إسرائيل والدول العربية الحليفة والمقاومات الوطنية من اتجاه إدارة أوباما لإقامة علاقة مع إيران على حساب الشركاء، كما صدمت بعض الدول العربية من تسهيل تلك الإدارة لتقدم “الإسلاميين” في المنطقة.
اللوبيات المؤيدة لسياسة إدارة أوباما المنفتحة على طهران والإخوان زادت في قلق عرب الاعتدال ما بعد 2010، وبخاصة منذ “الربيع العربي”، عندما فتحت النار الإعلامية على الحكومات العربية “الشريكة” وأسهمت في إسقاطها، ولكن الصدمة الكبرى كانت عند قوى المجتمع المدني التي كانت تنتقد الحكومات العربية القائمة قبل “الثورات” وشاركت في هذه الأخيرة، ولكنها فوجئت بوقوف الإدارة وقتها إلى جانب القوى القامعة للتقدميين في المنطقة من “خمينيين” و”راديكاليين إسلاميين”. فحصل تقاطع مصالح بين الليبراليين وبعض مؤسسات الدول الإقليمية. ورد هذا التحالف بين المجتمعات المدنية والإصلاحيين ومؤسسات الجيوش والقضاة والنقابات والطلبة على “التكويع” في السياسة الأميركية، ليس عبر حرب جديدة من حلفاء الأمس على واشنطن كما فعل اليسار العربي في الماضي، بل بإطلاق “مقاومة” شاملة عربية ومشرقية، على “حلفاء واشنطن الجدد” في المنطقة.
فثار الشعب المصري ودعمه الجيش ضد حكم محمد مرسي، وانتفض الشعب التونسي ولم يقمعه الجيش ضد حركة “النهضة”، وقاوم البرلمان الليبي ودعمه الجيش الوطني ضد الميليشيات الإخوانية. وواجه اليمنيون بدعم جنوبي القوى الحوثية، كما وقفت المعارضات في لبنان وسوريا والعراق ضد منظومة “الميليشيات الإيرانية”. أما الحكومات الإسرائيلية فهي أيضاً اعترضت على السياسة الأميركية المهادنة لطهران، واستمرت في اشتباكها مع التوغل العسكري الميليشياوي في الهلال الخصيب لسنوات. أما المملكة العربية السعودية والتحالف العربي، بما فيه الإمارات والبحرين، فاختاروا القوة السيادية الذاتية والتضامن الإقليمي الإيجابي. فقادت المملكة حملة مشتركة ضد الانفلاش الإيراني في اليمن، ودعمت الإمارات هذه الحملة وأصدرت أكبر لائحة لمواجهة الإرهاب في المنطقة.
بكلام ملخص، فالدول الشريكة والصديقة لأميركا وأكثرية شعوب المنطقة لم تقفز عاطفياً لتتحول إلى معادية للولايات المتحدة، بسبب تغيير نهجها في المنطقة، ولكنها قاومت أعداءها بحزم من ناحية وحافظت على أفضل ما يمكن من علاقات مع الولايات المتحدة، شعباً ودولة، لماذا؟ لأن السياسة الأميركية تتغير دوماً، ولأن الرأي العام الأميركي هو طبيعياً مع القضايا العادلة تاريخياً. من هنا فالأطراف التي تعتبر نفسها متضررة من تغيير المسار الأميركي منذ 2009، وهي تاريخياً حليفة لواشنطن لم تكسر التحالف وتبني محوراً مع خصوم أميركا كما فعل عبد الناصر في الخمسينيات أو زعماء في أميركا اللاتينية والعالم الثالث خلال الحرب الباردة، بل حصنوا بلادهم ووحدوا قدراتهم وردوا على المتطرفين في المنطقة وتواصلوا مع الإدارة على الرغم من الاختلاف بالرأي وتحاوروا مع معارضة الاتفاق النووي ومع من أراد مجابهة العقائد الراديكالية داخل الكونغرس، حتى مرت الموجة.
أما في مرحلة رئاسة دونالد ترمب كما شاهدنا في العقد المنصرم فتغيرت سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط منذ أواخر شهر يناير (كانون الثاني) 2017، و”كوّعت” من جديد، ولكن بقوة. فخرجت الإدارة الجديدة من الاتفاق النووي ووضعت “الباسدران” على لائحة الإرهاب وبدأت في مواجهة انفلاش الميليشيات على الأرض في المنطقة وقضت على “داعش”. ففتحت دول التحالف أبوابها للتعاون من جديد، وعقدت قمة الرياض في 2017 بحضور أكثر من 50 زعيماً عربياً ومسلماً، ووضعت الخطط لمواجهة أخطار المنطقة وعقد اجتماع فارسوفيا في 2019 لعزل النظام الإيراني، وشعرت العواصم الحليفة للولايات المتحدة أن “عهداً ذهبياً” من التعاون قد بدأ من جديد ولكن على أسس أقوى مما كان قائماً خلال رئاسة جورج بوش. فكان قرار الشركاء أن يستمروا بعلاقات خاصة مع واشنطن صائباً في السنوات السابقة، على الرغم من الخلافات، سرعان ما تبدلت المواقف في 2017، فسمحت الجسور القائمة بتحسينها عما كانت من قبل.
التجربة الثانية
مع إدارة بايدن مرت المنطقة، ولا تزال، بتجربة دقيقة ثانية، بعد أفول “مرحلة ترمب الذهبية” شرق أوسطياً، والعودة إلى الاتفاق النووي، إضافة إلى تسليم أفغانستان إلى “طالبان” مع ما ينتج عن ذلك من تداعيات في الدول “السنية” في العالم. فكان قرار حذف جماعة الحوثيين من لائحة الإرهاب الأميركية بداية الغيث في فبراير (شباط) 2021. وتبعه التراجع أمام الضغط الإيراني وعدم الرد على الصواريخ الباليستية على السعودية والإمارات والضغط على الرياض وأبوظبي لإيقاف الحملة في اليمن والتراجع الأميركي أمام المحور في العراق وسوريا وغيره من مؤشرات التنازل. فشكل عام 2021 ظاهرة معاكسة للسنوات السابقة وعودة أجندة أوباما. فماذا فعل التحالف وإسرائيل؟
الثبات والتصميم
كما تحركت الدول الشرق أوسطية الشريكة لواشنطن إبان مرحلة الاتفاق النووي الأول، وثبتت مواقعها حتى تغيرت مواقف واشنطن داخلياً، فقد أعادت هذه الدول إنجاز التموقع نفسه تقريباً في 2021 وبداية 2022، حيال سياسة العودة إلى الاتفاق مع بعد الفوارق، لا سيما وأن معاهدة أبراهام كانت قد أنجزت في صيف 2022، وهي لم تكن قائمة يوم توقيع الاتفاق النووي في 2015. فلعبت دوراً مهماً في تعاطي التحالف وإسرائيل مع إدارة بايدن حيال إيران. إلا أن حرب أوكرانيا خلطت الأوراق، فانفجرت أزمة الطاقة وتحركت إدارة بايدن لتجد البدائل في الطاقة، فتغيرت الحاجة إلى الخليج.
واجتمع الطرفان، الرئيس بايدن والقيادة العربية في جدة، وتغيرت المعادلة من جديد. فبات هناك تعاون ولو عادي بين التحالف بقيادة السعودية وواشنطن على أساس منع إيران من الاستفادة من الاتفاق لإيذاء الخليج. أما إسرائيل فبواسطة أصدقائها الكثر داخل الولايات المتحدة فتمكنت من إعادة طرح الملف الإيراني من جديد، مما شكل ضغطاً على الإدارة كي لا تتنازل كثيراً في المباحثات حول العودة إلى الـJCPOA (خطة العمل الشاملة المشتركة). لذا فشركاء المنطقة أكانت إسرائيل وأصدقاؤها أو التحالف العربي تمكنوا عبر علاقاتهم الأميركية أن يطوروا التموقع من صعب في 2021 إلى أفضل في 2022. فبثبات وتصميم تمكن الحلفاء من التصدي لـ”اللوبي الإيراني”، مما سمح لكثيرين داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري أن يسجلوا مواقفهم بقوة ويطالبوا بضمانات أقسى من الطرف الإيراني عبر الإدارة.
فطهران اليوم لها نفوذ داخل واشنطن، ولكن ليس من دون حدود. فالعرب وإسرائيل وأكثرية الكونغرس والمعارضة الإيرانية باتوا بمثابة جدار ثبات وتصميم داخل البيت الأميركي للدفاع عن استقرار وأمن المنطقة.
وما زلنا قبل انتخابات نوفمبر (تشرين) الثانية النصفية، وقد تغير ملامح الكونغرس أكثر في يناير المقبل.
المصدر: اندبندنت عربية