الصدر في مصيدة إيران: خطة ثلاثية الأبعاد بهدف «الترويض» لا الإجهاز!

رلى موفّق

يُقارب اللصيقون بـ«محور إيران» بكثير من الحذر «منازلة المنطقة الخضراء» في بغداد بين تيار مقتدى الصدر و«الإطار التنسيقي» وأجنحتهما العسكرية يومي التاسع والعشرين والثلاثين من آب/أغسطس الماضي. فما جرى ليس أمراً تُريد طهران من حلفائها أن يُفاخروا به كونه صراعاً ما بين «الأخوة» وضمن «البيت الشيعي الواحد». من وجهة نظر هؤلاء، يُغرِّد الصدر بعيداً عن متطلبات المرحلة الإيرانية التي تمرُّ بمرحلة دقيقة في حوارها مع أمريكا حول الملف النووي، وما ستجنيه العودة إلى الاتفاق من حصاد النفوذ الإقليمي في المنطقة التي تعتبرها مجالها الحيوي.

تتطلبُ المرحلة في الرؤية الإيرانية تقديم كل التضحيات الصغيرة من أجل صون المشروع الأكبر الاستراتيجي لإيران. فليس الآن وقت رفع الشعارات الرنّانة حول عقم النظام السياسي في بناء دولة المؤسسات، والخروج من نظام المحاصصة السياسية، وضرورة محاربة الفساد، وإجراء تعديلات دستورية، وحكومة «لا شرقية ولا غربية» لإخراج العراق من سياسة المحاور التي أنهكته.

وما طرحه الصدر بعد فوزه بالانتخابات النيابية في تشرين الأول/أكتوبر 2021 من حكومة أغلبية لا حكومة توافقية يستهدف حلفائها الخلص الذين لم يستطيعوا لوحدهم أن يفوزوا بالكتلة الأكبر ليتحكموا بمسار العملية السياسية حسب رغبة ومصالح طهران، التي ما عاد لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني المعني بملف العراق منذ اغتيال قاسم سليماني القدرة على لمِّ شمل «البيت الشيعي» وكبح جماح «الأخوة الأعداء»، بحيث إن حالات التمرّد بدأت تكبر وأصبحت خارج القدرة على الضبط، رغم معرفة الأب أنه ليس تمرداً كاملاً عليه ولا خروجاً كلياً عن طاعته، بل حاجة إلى الحد الأدنى من «تقويم الإعوجاج الذي كان السبب الأكبر فيه هو القوى السياسية الشيعية باعتبارها الأغلبية»، وفق رد الصدر على رسالة المرجع الديني كاظم الحائري التي شكَّلت مقتلاً لزعيم «التيار» الذي يستندُ اليه كمرجعية دينية في شرعيته وشرعية التيار وامتداده الشعبي داخل اللعبة السياسية والمؤسسة الدينية.

لا يأتي الصدر من خارج النظام لإحداث انقلاب جذري فيه. على العكس هو جزءٌ من منظومة المحاصصة السياسية التي حكمت العراق وتقاسمت السلطة فيه. في نظر «التشرينيين»، هو مَن حمى النظام وانقلب عليهم بعدما نزل أنصاره إلى الساحات وكانوا جزءاً من الاعتصامات ورفعوا شعارات مشابهة. يقول اللصيقون بـ«محور إيران» إن طهران نجحت، بالتواطؤ مع الصدر، في رفع الغطاء عن الحركة الاحتجاجية التي خرجت من رحم الجمهور الشيعي مطالبة بحياة أفضل، بعدما أقنعته بمخاطر تطيير النظام الراهن وتداعيات ذلك على وحدة «البيت الشيعي»، فكان أن ضُرب «التشرينيون» من «بيت أبيهم»، وتم إجهاض احتجاجات 2019، على الرغم من اعتبار بعض المراقبين أن هذه الاحتجاجات هي من أطاحت بحكومة عادل عبد المهدي وأتت بحكومة مصطفى الكاظمي التي كان من مهامها إجراء إصلاحيات دستورية، ومحاكمة قتلة المتظاهرين، والقيام بانتخابات نيابية مبكرة بعد إصلاح المفوضية العليا للانتخابات وقانون الانتخاب، وإنْ استطاعت المنظومة السياسية الالتفاف على المطالب وتفريغها من مضمونها.

بعد ما آلت إليه نتائج الانتخابات النيابية و«عناد الصدر» عن التماهي مع الرغبة الإيرانية، رسم قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني الخطة بدقة على المستويات السياسية والأمنية – العسكرية والدينية. حدد المواقيت وكيفية استدراج الصدر الذي يعرف جيداً رداته الانفعالية. فقد جرت محاصرته سياسياً، برص صفوف «جماعة الإطار التنسيقي» كتلة واحدة غير قابلة للتجزئة والمشاركة إلا في حكومة توافقية، وإخراج معضلة «الثلث المعطل» في البرلمان بعد تفسير دستوري بالحاجة إلى نصاب الثلثين لانتخاب رئيس للجمهورية الذي عليه أن يُكلِّف الكتلة الفائزة بتأليف الحكومة. تمَّ تحييد النواب المستقلين، واتخذ حلفاؤه من السُّنة والأكراد موقف المتفرج كون ما يجري هو صراع شيعي – شيعي على موقع رئاسة الحكومة الذي يعود عرفاً إلى الطائفة الشيعية، وبالتالي، فإن القرار في ما خص ذلك يعود إلى «البيت الشيعي» الذي عليه أن يحل هذه المعضلة. تلك المحاصرة، دفعت الصدر إلى إعلان استقالة نوابه الـ73 من البرلمان. ظنَّ الرجل أن خروجه من العملية السياسية قد يُثني خصومه عن المضي قدماً في مشروعهم، لكنهم على العكس مضوا في أجندتهم بعدما وجدوا أن سياسة «امتصاص الزخم» و«احتواء اللحظة « قبل اتخاذ القرار تفعل فعلها بديلاً لسياسة تحديد القرار المسبق التي كانت تُعتمد في زمن سليماني. بدا واضحاً أن طبيعة الصدر تفتقد إلى «النفَس الطويل» التي هي ميزة حائك السجاد الإيراني.

وجد زعيم التيار الصدري أن «الإطار التنسيقي» الذي يتقدّمه خصمه اللدود زعيم دولة القانون نوري المالكي التقط فرصة استقالة «الصدريين» من البرلمان وتحوُّل «الإطاريين» إلى الكتلة الأكبر ليذهبوا في الدعوة إلى انعقاد البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية وتأليف الحكومة. سرق «الإطار» نتائج الانتخابات، وناور في مسألة الانتخابات المبكرة بقبولها كفكرة، إنما ذهب إلى تنفيذ خطته بحسب ميزان القوى الجديد الذي أفرزه انسحاب الصدر من المؤسسة التشريعية، بغض النظر عن الحاجة إلى اتفاق سياسي نظراً إلى دقة المشهد العراقي. يومها قال المراقبون إن النتائج التي سيؤول إليها انسحاب الصدر ستظهر ما إذا كانت خطوة صائبة أو خاطئة. بدا في ظل ترشيح «الإطار» لمحمد شياع السوداني رئيساً للوزراء وفي ظل تسريبات عن خطة لوضع اليد على المؤسسات الأمنية القضائية والإدارية وتنقيتها من الصدريين، أن قرار زعيم «التيار» كان خاطئاً، فلجأ إلى تعطيل البرلمان من خلال اعتصام أنصاره فيه، غير أن «الإطار» ومن خلفه طهران لم يجدا أن ثمة حاجة إلى التراجع خطوة إلى الوراء، وأكمل الخطة بمستواها الشرعي والأمني. فكان الاستدراج عبر رسالة الحائري، التي هي رسالة مدروسة في توقيتها وأهدافها وفي ردَّة فعل الصدر عليها.

جاءت رسالة اعتزال الحائري لترفع الغطاء الشرعي عن مقتدى الصدر، معتبرة أنه فاقد لأهلية القيادة الشرعية، لا بل اتهمته بأنه يسعى إلى تفريق أبناء الشعب والمذهب. وأكثر من ذلك، استخدمت طهران الصراع الدائر مع الصدر لتوجيه ضربة إلى الحوزة في النجف حين أوصى الحائري باعتماد خامنئي كمرجعية دينية من بعده. يقول اللصيقون بـ«محور إيران» إن الرسالة خلخلت كيان الصدر الذي تفاجأ بها. كان خصومه حاضرون، ففتوى المرجع ستؤول إلى اعتزال الصدر، والاعتزال سيؤول إلى ردة فعل جماهيرية، بحيث يتم استدراجه لتوجيه ضربة له لا تؤول إلى الإجهاز عليه بل إلى «ترويضه» ودفعه للعودة إلى «بيت الطاعة».

في تقييم «جماعة إيران» أن الخطة نجحت، على أقله في المدى المنظور، بحيث إن الصدر فقد زمان المبادرة. يكشف قريبون من «حزب الله» أن أمينه العام حسن نصر الله دخل على خط الأزمة. وتولى الشيخ محمد كوثراني الذي كان يتولى في زمن سليماني أدواراً باسمه في العراق مهمة وقف تدحرج الموقفين الأمني والعسكري، بحيث رُسمت المخارج بأن تقف المؤسسة العسكرية في الوسط بين طرفي النزاع لتعود وتُمسك بزمام الأمور، وطلب من فصائل «الحشد» التابع لـ«الإطار» عدم تصعيد الموقف لاحتواء اللحظة الغاضبة للصدر بما لا يفتح الطريق أمام توسُّع المواجهات والاشتباكات وامتدادها إلى مختلف المحافظات الشيعية، خصوصاً بعدما شهدت البصرة مواجهات بين «سرايا السلام» و«عصائب أهل الحق» التابعة لقيس الخزعلي.

يكشف أحد المحللين القريبين من «الحزب» أن الأخير كان حريصاً في وسائل الإعلام المحسوبة عليه على عدم تظهير أن الصدر تلقى ضربة، وإذكاء منطق الصدام بين «الإطار» ومقتدى الصدر سياسياً وبين «الحشد» و«التيار» في الميدان، بل على تثمين موقفه الداعي إلى انسحاب أنصاره من الساحات، والتأكيد على أنه حالة حقيقية موجودة في الواقع العراقي والواقع الشيعي.

لا يبدو جلياً ما إذا كان ثمة حل ابتُدع من قبل «حزب الله». المأمول بالعمل عليه، وفق قريبين من «حارة حريك»، يتراوح بين حد أدنى يتمثل بالعمل على حكومة وحدة وطنية تبقى إلى ما بعد الانتخابات، وحد أقصى بوضع سقف زمني لانتخابات مبكرة، غير أنه يُشير إلى أن لا قبولَ إيرانياً و«إطارياً» بالذهاب إلى خيار حل البرلمان. وتبدو مواقف «الإطار» منذ «منازلة المنطقة الخضراء» تصعيدية لا احتوائية، إذ لا يزال مصراً على انعقاد البرلمان والمضي قدماً في الاستحقاقات الدستورية وكأن شيئاً لم يحصل في العراق ولم يترك تداعيات. يذهب لصيقون بـ«محور إيران» إلى اعتبار مواقف «الإطار» العالية السقف الآن مناورة بحيث يتم بعدها التراجع عن ترشيح السوداني والذهاب إلى مرشح وسطي تنطبق مواصفاته على رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، الذي يُشكِّل نقطة تقاطع داخلية وخارجية.

هي صورة متفائلة عن نجاح طهران في الإمساك بوجهتي الصراع «الشيعي – الشيعي» في العراق بعد عملية تطويع الصدر تمهيداً لاحتوائه وإعادة لمّ شمل «البيت الشيعي»، لكنه قد يكون مبكراً الذهاب إلى الاستنتاج بأن الأمور حُسمت. فما جرى هو جولة في إطار صراع طويل تتحرَّك فيه موازين القوى من ضفة إلى أخرى، وحلقة في صراع أوسع وأبعد من الجغرافيا العراقية، ذلك أن الصدمة السلبية التي تخرج من الحوار الإيراني – الأمريكي ستكون انعكاساتها، لفترة ليست بالقصيرة، على كل الساحات حيث أذرع إيران حاضرة بقوة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى