في الدول الديموقراطية الليبرالية تبنى السياسات على مبادئ التشاور والنقاشات والتصويت في الهيئات الاشتراعية على قرارات السلطة التنفيذية.
لا تمرّ لحظة على “السوشيال ميديا”، أو لا يمر يوم في الإعلام العربي أو الشرق أوسطي، إلا ونقرأ أو نسمع أصواتاً تدين “المؤامرة الأميركية – الإيرانية على المنطقة و شعوبها”، وروايات عن “واشنطن التي باعتنا لطهران والملالي” على حساب العرب والأقليات، ويسترسل أصحاب هذه النظريات “بالإفصاح” عن روايات وسيناريوهات عديدة ومثيرة عن التآمر وأحياناً يربطوه “بالمؤامرة الصهيونية الكبرى” ويؤكدون أن “إسرائيل والفرس حلفاء من آلاف السنين” ومتآمرون على العرب والشعوب الأخرى، ويفسرون التطورات الحالية على أرض الواقع بأنها “براهين” تؤكد نظرية المؤامرة أو “المؤامرات” التي تحاك وتنفذ، وأن أميركا “لا تريد خيراً للمنطقة، بمسلميها وأقلياتها”. الحكايات هذه باتت أدغالاً من الاتهامات ونبعاً لا يجف من غزارة من الخيال، وهي من خصائص الثقافة السياسية في المنطقة منذ عقود إن لم تكن منذ قرون. فهل يجوز أن يغرق الرأي العام في الشرق الأوسط في خرافات قديمة جديدة عن مؤامرات دائمة تحاك ضد الأمم من قبل قوى الشر الدائم؟
ولكن بالمقابل، معظم الناس في العالم العربي يرى بأم العين سياسات واشنطن تتناقض مراراً وتتخلى عن شركائها وحلفائها، و”تسمح” لطهران بأن “تفوز بالجولات” الواحدة تلو الأخرى، وتتوسع في المنطقة وتنفلش عسكرياً، وأمنياً، وسياسياً، وتطلق الصواريخ البالستية حيث تريد، وتفرض شروطها في هندسة الاتفاق النووي، وواشنطن “تتفرج” وتتردد، ومتراجعة أمام العناد الإيراني. وهذه ليست خرافات، بل أمور تحصل على أرض الواقع، وهي ملموسة ومرئية. فكيف لا يصدق الناس الخرافات المؤامرتية؟ الجواب هو أن هناك وقائع وهنالك خرافات والمسألة أن يتمكن الناس من التمييز بين الاثنين.
مقياس التمييز
في الدول الديمقراطية الليبرالية وأعظمها هي الولايات المتحدة، تبنى السياسات على مبادئ التشاور والنقاشات والتصويت في الهيئات الاشتراعية على قرارات السلطة التنفيذية، وإمكانية نقضها أمام القضاء، والتأثير عبر الصحافة وعليها، لدعمها أم رفضها، والاحتجاج ضدها، أو التظاهر لدعمها، والأهم، تغيير أية سياسة خارجية مع تغيير الحكومات والرؤساء. فليس هناك سياسة أبدية، أزلية، لا يمكن أن تتغير، أو تتعدل، أو تفشل يوماً، بالخلاصة ليست هناك مؤامرة “دائمة” أو “Conspiracy” تأتي بقرارات مباشرة من “غرف مظلمة” إلى التنفيذ المباشر، كما يظن كثيرون في العالم، وفي المنطقة العربية بخاصة، فالأجهزة الدبلوماسية والعسكرية والأمنية والعدلية وغيرها، لا تأخذ أوامرها من “متآمرين” في كهوف، أو في غرف فنادق، بل عبر مؤسسات دستورية، وأجهزة إدارية، وبعد نقاشات معمقة، ويحسمها من له السلطة بذلك.
إلا أن كل القرارات السياسية لها “مطابخ”، منها علني ومنها غير مرئي، منها في غرف في البيت الأبيض، ومنها في مرائب منازل “Basement” سياسيين سابقين، والأهم أن أكثر المتداخلين في صناعة هذه القرارات أو ممانعيها، هم من “جماعات الضغط” Pressure groups، المعروفين “باللوبيات”، بالفعل، فهذه المجموعات تضغط لمصلحة جهات داخلية، وأحياناً لمصلحة دول خارجية لدفع التشريعات أو القرارات التنفيذية باتجاه أو آخر. في الولايات المتحدة “الضغط السياسي” لا يعدّ “مؤامرة” بل هو جزء من عمل سياسي لصالح أجندة معينة، وهو، أي الـ Lobbying هو عمل مشروع وطبيعي، على أن يتبع الشروط القانونية المنصوص عليها. لذا إذا نجح فريق بإقناع الإدارة بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، لا يعني ذلك أنها “مؤامرة تاريخية” على العرب، بل يعني أن الحكومة اقتنعت أن للولايات المتحدة مصلحة قومية في التوقيع، وأن للرئيس قدرة دستورية أن يوقع، مع أكثرية في الكونغرس، أو عبر قرار تنفيذي، إذا لم يحصل على هكذا أكثرية، والمفارقة أن الناخبين الذين صوتوا للرئيس قد لا يكونون من أنصار إيران أو أخصامها، إلا أنهم من مؤيدي الرئيس، فيدعمون سياسته، وهذا أيضاً ليس بمؤامرة. وعلى الرأي العام العربي، والشرق أوسطي، والإسلامي، أن يفهم ميكانيكية الآلية السياسية الأميركية، فإن أتت لمصلحة أو ضدّ هذه القضية أو تلك، هذا لا يعني بحد ذاته “مؤامرة أميركية” مع أو ضد، بل نتيجة لتحرك اللوبيات تلبية لمصالح سياسية أو اقتصادية معينة، وهذا أيضاً كان الوضع في ما يتعلق بالملف الإسرائيلي – الفلسطيني، إذ يصوت الكونغرس دائماً لصالح إسرائيل أو دفاعاً عنها، أياً كانت أكثريته الحزبية، وهذا ليس “مؤامرة صهيونية يهودية” دائمة ضد الفلسطينيين، والعرب، والمسلمين، بل تأثير سياسي لمجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل التي تحظى بدعم الجاليات اليهودية الأميركية والطوائف الإنجيلية، أو إبان الحرب في يوغوسلافيا خلال التسعينيات، لم يكن الموقف الأميركي المؤيد للبوسنة وبعد ذلك لكوسوفو، “مؤامرة على المسيحيين الأرثوذكس” في البلقان بل سياسة تأثرت برد فعل الرأي العام لضحايا القتل الجماعي خلال الحرب وضغط مجموعة الدول الإسلامية الحليفة للولايات المتحدة.
لذا، فالتحديد الأدق من “مؤامرات أميركية” هو “سياسات أميركية” تحت تأثير الرأي العام وجماعات الضغط (أي اللوبيات)، وهذه الأخيرة قد تكون شركات كبرى تهدف إلى دفع الإدارات والكونغرس لعقد اتفاقات مع دول، قد تكون أحياناً في موقف العداء للولايات المتحدة، كإيران أو الجماعات الإسلاموية المتطرفة كحركة “طالبان”، وفي هذا الإطار يبرز عامل “التدخل الخارجي” Foreign Meddling المسؤول عن سياسات أميركية تحاكي مصالح أجنبية، قد ينظر إليها كمضادة لشركاء واشنطن، بما فيها ملف الاتفاق النووي.
“التدخل الخارجي”
الاستثناء الوحيد لآلية اللوبي القانونية والمعتمدة سياسياً في أميركا، هو تدخل لقوى خارجية في الداخل الأميركي بهدف التأثير في السياسة الخارجية لصالح تلك القوى. ففي القانون الأميركي، وبعكس كثير من الدول الأخرى، يسمح لحكومات وأحزاب وقوى وشركات أن تتواصل مع، وتضغط على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وعلى الإعلام والتربية ومراكز الأبحاث لتمرر أجنداتها المختلفة، ولكن بشرط التسجيل لدى وزارة العدل تحت قسم “العملاء الأجانب” Foreign Agents، المعروف بـ FARA ما يسمح للأطراف الخارجية أن تدفع مبالغ مالية لممثلين غير دبلوماسيين، وهم بمعظمهم مواطنون أميركيون، يعملون بصفة استشارية، أو كوكلاء للأطراف الأجنبية، وبشكل علني، لدعم ملفات موكليهم، المهم أن يسجلوا، وأن يعرف الرأي العام أن هؤلاء “الوكلاء” يعملون علناً لصالح أطراف خارجية، وحتى هذا النوع من العمل، المموّل خارجياً، ليس غير قانوني، بالتالي ليس “مؤامرتياً”.
ولكن الخط الأحمر القانوني في الولايات المتحدة هو عدم “التآمر” Conspiracy مع قوى خارجية، والحصول على دعمها المالي، للتأثير في السياسة الأميركية، من دون تسجيل. فبالنسبة للقانون الأميركي، هذا يعتبر مؤامرة لفرض أجندة معينة بخاصة في السياسة الخارجية، والمعلوم أن دولاً عدة لها لوبيات مسجلة بما فيها الشرق أوسطية والعربية والإسلامية، لها لوبيات ممولة ومسجلة، تعمل على أجندات حكوماتها، أو كإسرائيل تعمل مع منظمات قوية أميركية مثل “أيباك”، وغيرها. والمعروف أيضاً أن بعض هذه الدول تدعم كيانات أو شخصيات غير مسجلة، فتتدخل السلطات والمحاكم لتطبيق القانون. ويشمل النشاط المضاد للوبي غير الشرعي كل تلك الاختراقات، ولكن الحالة الأخطر لتدخل خارجي من الشرق الأوسط من دون تسجيل، بالتالي يمكن اعتبارها “مؤامرة” على السياسة الخارجية، هو التدخل الإيراني.
“اللوبي الإيراني”
“اللوبي الإيراني” لا يمكن تسجيله لأن النظام في طهران هو على لائحة الإرهاب، لذلك، فإن نشاطات طهران للتأثير في السياسة الأميركية، إن حدثت داخل أميركا، أو عبر أميركيين، هي من قبل كيانات مرتبطة بالإرهاب، أو عاملة معه. هنا لا نشير إلى أعمال “إرهابية” بحسب تحديد القانون الأميركي، بل مجرد أعمال تأثير سياسي عادي، بما فيها الاتصال بجماعات ضغط وسياسيين وإعلاميين وشركات. عملياً اللوبي الإيراني خرق القانون الأميركي، سنوات، لتأثيره في شريحة من المسؤولين ورجال الأعمال الأميركيين، أي أنه مبدئياً طبق النهج “المؤامراتي” بحسب القوانين المرعية، ولكنه بقي “سليما”. السؤال هو لماذا؟
“لوبي الاتفاق النووي”
الجواب على هذا السؤال الدقيق هو أن قوة ضغط أكبر تقف وراء “اللوبي الإيراني” بحد ذاته، وهو “لوبي الاتفاق الإيراني”، وهو تجمع المصالح المستفيدة من “الاتفاق” وتضم كل القطاعات التي تواصل معها لوبي النظام ووافقت على مساعدته لقاء استفادة معينة، وطالما أن قوة الضغط هذه واسعة ومتجذرة عميقاً في البلاد، فهي باتت المظلة الكبرى التي يتحرك تحتها اللوبي الإيراني. بما يعنيه أن قدرة طهران أن تضغط على مراكز القرار في واشنطن، على الرغم من الحالة العدائية بين البلدين، هي بالفعل أكبر مما يعتقده أصحاب الرأي في المنطقة. فالقطاعات التي ارتبطت بالاتفاق، وأبعاده التجارية والاقتصادية والدبلوماسية، لديها القدرة أن تؤثر في القرارات الخارجية لا سيما تحت الإدارات التي تبنت الاتفاق، أي إدارتا باراك أوباما وجو بايدن، وهذه القطاعات وتجمعات المصالح هي التي تدفع السلطات التنفيذية للتمسك بالـ JCPOA وتضغط باتجاه ما يرضي شريكها في “البزنس” Business، أي النظام الإيراني، عبر آليات اللوبي المعهودة في الولايات المتحدة. هذا ليس مخفياً الآن، ولكن ما هو غير واضح، هو آلية التأثير الإيرانية في الدولة الأميركية لتمرير الاتفاق بشروط طهران، فإذا كانت الحكومة الإيرانية غير قادرة قانونياً أن يكون لها لوبي رسمي في واشنطن، فمن هو يا ترى من يلعب هذا الدور؟ وسنعود إلى هذا الملف لاحقاً.
مؤامرة أم سياسة؟
بالعودة إلى المنطقة، ربما هذا واقع لم يأخذه كثيرون في الحسبان، عندما أبدوا عن “غضبهم” بسبب ما يعتقدون أنه “مؤامرة أميركية لتمكين إيران من العرب” بينما في الحقيقة أنها عملية تأثير (أو اختراق) إيرانية لقطاعات المصالح التي ارتبطت بالاتفاق، بهدف استدراج الولايات المتحدة للتقارب مع طهران والابتعاد عن شركائها العرب والشرق أوسطيين. وإذا استعملنا “خطاب المنطقة” الحماسي، لقلنا إن المسألة ليست “بمؤامرة أميركية – إيرانية” ضد العرب والآخرين في الشرق الأوسط، بل ربما “مؤامرة خمينية” (وهي عبارة لا نستعملها) للسيطرة عبر الاتفاق النووي، على سياسة واشنطن تجاه شركائها التاريخيين لصالح “الجمهورية الإسلامية”، إنه مخطط إيراني يستهدف السياسة الأميركية.
وفي مقال مقبل سنستعرض قدرة العرب والشرق أوسطيين على التمييز بين “المؤامرات والسياسات” للخروج من الدوران في حلقات مفرغة، بينما الإيرانيون يفرضون خطابهم التمويهي على الجميع.
المصدر: اندبندنت عربية