التطبيع والمصالحة في مطالب دمشق وأنقرة

عمار ديوب

أوردت صحيفة “تركيا” التركية مطالب كل من دمشق وأنقرة للتطبيع والتصالح. تشترط مطالب النظام السوري سيطرته على المعابر الحدودية، وإدلب ورفع العقوبات الأوروبية والأميركية، وأن تسانده تركيا في العودة إلى جامعة الدول العربية والمؤسسات الإسلامية والإقليمية. أمّا مطالب تركيا، فهي تنصّ على إبعاد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) عن الحدود، والبدء بالحوار بين النظام والمعارضة، وأن تكون حمص وحماة ودمشق مناطق تجريبية لعودة اللاجئين بشكلٍ آمنٍ وطوعيٍّ، وأن تكون تركيا من الدول المراقبة لهذه العملية. ولم تكتف بذلك، فأضافت البدء بتطبيق مسار جنيف وكتابة دستور ديمقراطي، وانتخابات حرّة، والإفراج عن المعتقلين.

لم تتبنّ دمشق وأنقرة تلك المطالب بصورة واضحة. إذاً وظيفتها جسّ النبض بين العاصمتين اللتين تسعيان إلى التطبيع، وإنْ كانت تركيا أكثر إعلاناً حوله، ورغم ذلك سنعتبر المطالب وثيقة حقيقية. وإذا تجاهلنا مواقف النظام نحو التطبيع، باعتبار روسيا وإيران الفاعلتين في سياساته، فإن روسيا تعمل، كما تركيا، من أجل التطبيع والمصالحة. وبالتالي، هل توافق روسيا على المطالب التركية؟ وهل توافق تركيا على مطالب النظام، أي روسيا؟ يُكثر الإعلام من الحديث عن تلك المطالب، وكأنّها مُتبناة بالفعل، وبالتالي، لا بد من البحث عن مطالب “مشتركة” من الوثيقة تحقق مصلحة الطرفين. القضية السابقة معقدة للغاية، وليست بسيطة؛ فهناك إيران، والتي ترفض أية شروط للمعارضة على النظام أو لتركيا عليه، وهناك أميركا، حامية “قسد”؛ فكيف سيتمكّن النظام من تنفيذ مطلب تركيا بإبعاده “قسد” وسواه.

أيّة تسويةٍ لا بد أن تكون واشنطن حاضرة فيها، وضامنة لها، وكذلك إيران، وهناك مصالح الشعب السوري. تجاهل دور هذه الأطراف سيعني الإخفاق الكامل للمساعي الجديدة؛ وهذا في غاية السهولة، وعبر افتعال مشكلات أمنية مؤلمة. الآن، ترفض جهاتٌ في النظام السوري ذلك؛ فالفئات التابعة فيه لإيران تعمل على التخريب، وهيئة تحرير الشام لن تصمت إزاء ذلك، وهي لا يمكن لتركيا التفريط فيها من دون شطبٍ كاملٍ لـ”قسد”. اللافت هنا ان مناطق السيطرة التركية المباشرة ليست مشمولة بالعودة إلى سيطرة النظام، وكذلك حلب ليست ضمن المطالب التركية للعودة الآمنة، فهل يمكن تخطّي حلب والحديث عن حماة وحمص ودمشق؟

أكيد أن هناك أوراقاً كثيرة تستخدمها تركيا والنظام وروسيا وإيران وأميركا لتدوير الزوايا. الثابت الحالي أن تركيا تريد ذلك التطبيع؛ فهناك الانتخابات التركية في العام المقبل، ولا بد من ربحها، وهناك الدعم الغربي للمعارضة التركية، وهذا ما يزيد الهوّة بين تيار أردوغان والغرب، ويقرّب أردوغان بشدّةٍ من روسيا. تستغل الأخيرة ذلك من أجل استقرار الأوضاع في سورية، ومن أجل علاقاتٍ أكثر متانة مع تركيا، وهي في حالة عزلة، ولن تخرج منها قريباً، والاتفاق النووي بين إيران والترويكا الغربية بصفة خاصة سيُعطي إيران القدرة على معاندة بعض السياسات الروسية في منطقتنا وفي بحر قزوين، وفي مسائل كثيرة؛ تركيا المدفوعة بالانتخابات، ولديها أزمة اقتصادية كبيرة، ستعمل من أجل التطبيع. ولكن كيف ستعمل من أجل مصالحة النظام والمعارضة وفق المطالب أعلاه، وهذا سيمرُّ حتماً بحل مشكلة اللاجئين، وهي مشكلة داخلية تنافسية بين تيار أردوغان والمعارضة التركية، فهل سيعودون إلى دمشق وحمص وحماة، أم لن تلبّى هذه المطالب، وسيتم حشرهم في القرى التي في طور الإنشاء على الحدود الشمالية لسورية حالياً، عدا عن أن أزمة النظام السوري الهائلة تؤكّد هذا الخيار “الحشر”، وهذا يعني أن التطبيع سيكون مخابراتياً، بينما السياسي سيظلّ محدوداً، وقد لا تنتج مصالحة بين النظام والمعارضة في اللحظة الراهنة. مطالب تركيا بالحوار بين النظام والمعارضة أو العودة إلى مسار جنيف سترفضها روسيا جملة وتفصيلاً، علما أن الأخيرة همّشت اجتماعات اللجنة الدستورية، ولم تعد للقاء أستانة فائدة حقيقية، وكانت فائدتها خالصة لصالح إنهاء وجود القوى الرافضة للنظام في كل سورية، وفي تراجع قيمة المعارضة سورياً وإقليمياً وعالمياً.

ما فعلته تركيا منذ موافقتها على دخول روسيا إلى حلب 2016، ومسار أستانة واللجنة الدستورية، ومرورا بمناطق خفض التصعيد الأربع، ولم يبق منها خارج سيطرة النظام إلا بضع بلدات إدلب والمدينة، قاد إلى الكلام الجاد عن التطبيع، والأقل جديّة بخصوص المصالحة. المقصد هنا أن تركيا ليست بوارد إيقاف التطبيع، بل هي عملية تتسارع مع كل تصريح من الوزراء الأتراك والمقرّبين من الرئيس أردوغان. المشكلة الكبرى أن المطالب أعلاه ليست هي المنطلق والمرجعية للتطبيع والمصالحة، بل المرجعية هي تصريحات الدبلوماسية التركية حول التقارب مع دمشق.

تركيا مسيطرة على الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والفصائل العسكرية السورية التابعة له، وستعمل الأخيرة وفقاً للمشيئة التركية. مشكلة تركيا تكمن في عدم رغبة روسيا أو النظام أو إيران في بحث المطالب أعلاه، أو مستقبل المعارضة أو وضع اللاجئين أو وضع المناطق التي تسيطر عليها تركيا بشكل جادّ. وبالتالي، لا يمكن لتركيا أن تتقدّم كثيراً في التطبيع أو المصالحة، ما دامت روسيا ليست مستعدّة بصورة كافية لحلٍّ جاد، ولن أقول جذريّا، للمشكلة السورية، فالحلُّ لا يمكن الوصول إليه إلّا عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، كما نصَّ قرار مجلس الأمن 2254.

عالمياً يتشكّل معسكران؛ روسيا والصين بشكل رئيسي من جهة، وأميركا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكوريا الجنوبية وأستراليا ودول أخرى كمعسكرٍ آخر. إقليمياً هناك التقارب التركي المصري السعودي والإماراتي الإسرائيلي، وكذلك التقارب السعودي الإيراني، وأيضاً التطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل؛ كل تلك التغيرات المتسارعة عالمياً وإقليمياً تفرض التطبيع التركي مع النظام السوري. وفي هذا نرى أن “الانعطافة الأميركية” نحو منطقتنا انتهت باقتراب التوقيع على الاتفاق النووي، حيث تزداد المشكلات بين أميركا وإسرائيل، ولم تندفع الدول العربية نحو أميركا. تركيا أيضاً لم تلحظ تلك الانعطافة، بل ترى أن سياسات الدول الغربية ضد مصالحها إقليمياً وعالميا، وهناك مشكلات تركيا الداخلية. كل هذه المعطيات دفعت أردوغان، ولا سيما بعد فشله في قمّة طهران، في تمرير ضرورة المصالحة بين النظام والمعارضة لعقد لقاء مع بوتين، والذي أثمر كل التصريحات التركية الجديدة. وهي تصريحات ليست موجّهة فقط إلى النظام السوري أو إلى روسيا وإيران، وكذلك إلى الرأي العام التركي، وهو بيضة القبّان في بقاء أردوغان في السلطة في الانتخابات المقبلة، وتستهدف أيضاً محاصرة المعارضة واستقطاب الأغلبية التركية.

مشكلة السوريين الراهنة في غياب تلمّس النظام مشكلات سورية، داخل مناطق سيطرته وخارجها، وكذلك الأمر لدى تيارات المعارضة، والتي لا تضع أمامها أيّة محاولات للتقارب بين “قسد” و”الائتلاف الوطني ..”. وليس هناك تيارات أخرى وازنة سواهما تخرج من معطف أميركا أو تركيا. السكان تحت سيطرة “قسد” أو الفصائل عاجزون عن الفاعلية، والتظاهرات في مناطق سيطرة تركيا لن تتطوّر إلى انتفاضة ثانية؛ فالناس في حالة إجهادٍ كاملٍ، وليس لديهم أيّة ثقةٍ في تيارات المعارضة، ولكنهم أيضاً في حاجة إلى تسويةٍ سياسية، تنهي مأساتهم. ما لا أراه سليماً، قول بعض المعارضين إن تركيا ستبيع المعارضة والفصائل وهيئة تحرير الشام للنظام، شريطة أن يُجهز الأخير على “قسد”. ولكن، ولنفترض صحّة هذه “التجارة”، هل ستوافق أميركا على هذه الطبخة، وماذا ستربح منها، وهي المتمركزة في سورية من أجل مراقبة شؤون المنطقة وأمن إسرائيل ومحاربة الإرهاب من دون أيِّة تكلفة حقيقية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى