لم يفكر أحد في سوريا يوم بدأت الثورة، بتوازنات القوى العالمية والاقليمية وبقدرات النظام على التلاعب بالمزاج الدولي، ولا حتى بمقدار التضحيات التي ستُقدم مقابل المطلب الواضح والكبير بالحرية والكرامة.
خرجت الثورة دون حسابات تتعلق بكل ذلك، ومنذ ذلك الحين، نشأ جيل كامل في خضمها، يشارك في الثورة ويدعمها، ويضيف الى أسبابها أسباباً أخرى كثيرة، خلقتها سنوات من دم ودموع وإرهاب مارسه النظام ضد شعبه.
بعد أكثر من أحد عشر عاماً، تعيش الثورة مخاضاً جديداً، ويكتشف من ظل حياً من روادها، أو الذين انضموا اليها خلال سنوات اضرامها، أن هناك من يطلب منهم التصالح مع قاتلهم، ومشردهم، وهادم كل شيء جميل في بلدهم ومستقبلهم.
تركيا الحليف الاقرب للثورة السورية منذ اليوم الاول، تبدأ تدريجياً بتبني مقاربات جديدة تدعو للحوار مع النظام السوري لإيجاد حل سياسي. هذه الدعوات، وإن تبدو رصاصة في جسد الثورة، إلا أنها أعادت الى الشارع السوري حيويته، وكأن الربيع السوري يعود من جديد، لكنه وحيد هذه المرة بلا أصدقاء أو ثورات.
لا يمكن أبداً اعتبار الغضب من أية دعوة للمصالحة مع النظام أمراً عاطفياً مبالغاً فيه أو أنه غير واقعي، بل على العكس من ذلك، فإن ما يسمى المصالحة في الظرف الحالي لن تكون غير عملية إذعان واستسلام وإحياء لشرعية النظام، وتخليصه من خانة النظم المارقة، ليكون الأمر بمثابة خيانة مكتملة الأركان لدماء الشهداء وتضحيات السوريين الضخمة التي ليس لأحد، أياً كان، القفز عليها تحت أي ظرف أو اعتبار.
غير أن هذا التشدد المبرر والواقعي في رفض مصالحة مخزية مع النظام، ينبغي أن يرتبط بحقائق يفرض الظرف طرحها بوضوح شديد، فمن ناحية، يتوجب وضع الموقف التركي في سياقه العملي والسياسي دون توقعات غير واقعية، ولا فرض لأجندات معينة، أو الارتكاز على خلفيات شخصية أو جماعية ضد تركيا لهذا السبب أو ذاك، ومحاولة انتهاز الفرص لمهاجمتها أو الإساءة لها، كما حصل مع الواقعة المرفوضة بالكامل المتمثلة بإحراق العلم التركي في الشمال السوري.
الواقعية هنا تفرض تأكيد رفض فكرة (المصالحة) مع أسباب ذلك وبدائله، بغض النظر عما إن كان الأمر صدر من تركيا أو من سواها، فضلاً عن ضرورة الأخذ بالاعتبار التوضيحات الرسمية التركية، إلى جانب التاريخ الكامل لمواقف تركيا، ودورها المهم في استقبال ملايين اللاجئين السوريين منذ أكثر من عشر سنوات.
ما حصل هو خلط غير مقبول بين مواقف مشروعة وضرورية برفض التحاور او المصالحة مع النظام في سياق غير مقبول وغير مؤات، وبين تصفية حسابات شخصية أو فصائلية أو ربما لحسابات اقليمية مع تركيا أو حتى بدافع الغيرة والحماسة، وتصعيد الشحن ضد أنقرة بطريقة تسبب حرجاً لملايين اللاجئين داخل تركيا ومثلهم من النازحين في الشمال السوري. المهم هنا أن هذا الخلط سيضيع جوهر القضية والأسباب التي أوصلتنا الى هذا الطريق المسدود، حيث لا يمكن للمعارضة أن تصالح النظام، ولا تستطيع في الوقت نفسه أن تهزمه. فيما تسبب ذلك بتطبيع حالة غير سوية لتصبح سياقاً سائداً وأمراً واقعاً هو بحد ذاته نجاح مهم وكبير للنظام.
علينا هنا أن نعترف أن المعارضة السورية تواجه مآزق مركبة، وتحديات جسيمة، وفشلاً في تحقيق أي نجاح سياسي خلال السنوات الأخيرة، وكل ذلك كان لصالح النظام بطبيعة الحال.
إن المشكلة في حقيقتها داخلية تتعلق بالمعارضة السياسية أو المسلحة بالدرجة الأساس، ومن بين أبرز هذه المشكلات، الانقسام الحاد بين القوى الثورية، سواء الفصائل المسلحة على الأرض، أو المعارضة السياسية وهيئاتها، ووصول بعضها الى درجة التخوين، وكل ذلك لا يبقي الكثير من الفرص لخلق واقع صحي وسليم لفرض شروط على الوسطاء أو المجتمع الدولي سواء لتطبيق مجلس الأمن أو تغيير قواعد التعامل مع القضية السورية بطريقة تضمن حقوق الشعب السوري وتكفل محاسبة النظام المجرم.
لقد أبدى كثيرون من السوريين موقفاً واضحاً برفض (الاتفاق) مع نظام ارتكب جرائم حرب مروعة ضد شعبه، وكانوا في توافق مع ضمائرهم في هذا الرفض، لكن لا ينبغي التملص من الأسباب التي أدت إلى طرح فكرة هذا الاتفاق ورميها على عاتق الآخرين، بمن فيهم أولئك الذين طرحوها بقصد أو بدونه. ففي النهاية هناك سياق من الوقائع تُبنى على أساسه المواقف السياسية، وقد تكون هذه فرصة لنعيد النظر بعمق وصراحة بالظروف التي قادت إلى بناء هذا السياق الصعب وغير العادل، رغم أنه غير ثابت ولا نهائي.
المصدر: المدن