سجل أسماء المبعوثين الأمميين إلى دول المنطقة طويل إلى درجة أن ذكرهم، مع خبراتهم ووظائفهم السابقة سوف يملأ هذه الصفحة من دون طائل مثلما هو وجودهم نفسه من دون طائل.
الأمم المتحدة لا تحصي فشلها. قد تحصي كل مصيبة أخرى، وتقدم بشأنها التقارير ذات الأثر الذي تفترض أنه مزلزل لأجل لفت انتباه الدول الكبرى، إلا أنها لا تحصي فشلها الخاص. هذا الفشل يمر بصمت، وتجري تغطيته وكأنه لم يحصل.
لقد عرفت المنطقة العربية سلسلة أزمات، بدأت من غزو العراق في العام 2003، ولم تنته بالأزمات في سوريا واليمن وليبيا ولبنان. وأرسلت الأمم المتحدة مبعوثين إلى هذه الدول ترافقهم فرق تخصصات وموظفين، بلا حساب، إلا أن النتيجة الوحيدة هي أنهم وضعوا مقارباتهم فوق رمال متحركة، فحصدوا الفشل.
ما من دولة عضو في الأمم المتحدة ساءلت أمينها العام: لماذا يفشل مبعوثوك في كل مكان؟ ما هو الخطأ الذي يشترك فيه الجميع الذي يجعلهم عاجزين عن تحقيق المهمات الموكلة إليهم؟ ولماذا لم تتعلم بعثاتك الدروس من فشلها، كلما تم إرسال مبعوث جديد إلى أزمة من الأزمات؟ وهل الأزمات هي العسيرة على الحل، أم أن مبعوثيك هم الذين يشقون طرقا لا تؤدي إلى الحل؟ وإذا كان الحلول مستحيلة إلى حد أن الجميع يفشل في بلوغها، فلماذا لا يتم إلغاء هذه الوظيفة الوهمية المسماة “مبعوث الأمين العام”؟
سجل أسماء المبعوثين الأمميين إلى المنطقة طويل إلى درجة أن ذكرهم، مع خبراتهم ووظائفهم السابقة، سوف يملأ هذه الصفحة من دون طائل، مثلما هو وجودهم نفسه من دون طائل. وكاتب هذه السطور بعد أن تورّط بقضاء ثلاث ساعات في رصد الأسماء، قرر في النهاية أن يرميها (الساعات الثلاث) في أعز مكان له تحت طاولته، للأشياء التي لا نفع فيها.
سوى أنه، بدأ باعتقاد مخادع. فحيال الأسماء الشهيرة للمبعوثين في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، فقد غلبه الظن أن هناك مبعوثا مسكينا، واحدا، في لبنان لا يحظى بذلك المستوى من الاهتمام، ربما لأنه (أو لأنها) لا ينشغل بالقضايا الكبرى في العلاقة المأزومة بين زعماء الطوائف، بمقدار ما ينشغل بتوزيع الطحين الذي تدعمه الأمم المتحدة على المخابز. ولكنه سرعان ما اكتشف أن للأمين العام جيشا من المبعوثين هناك، هم أكثر عددا من أي مكان آخر في العالم، يغطون سلسلة من مسؤوليات المنظمات الدولية المتنوعة. ساعتها، فقط، فهمَ لماذا أصبح لبنان واحدا من أفشل دول العالم.
ضع كلمات “فريقنا في لبنان” على محرك البحث، وشوف قائمة المسؤولين التابعين للأمم المتحدة “قديش طويلة”. سوف تعرف لماذا يتقاتل الناس أمام الأفران للحصول على “ربطة خبز”.
الشيء الملفت أكثر، هو أنك تستطيع أن توجه الاتهام في هذا الفشل إلى أي أحد، ولكنك لا تستطيع توجيه الاتهام إلى مبعوثي الأمين العام ومسؤولي منظماته. فهؤلاء، وإن كانت وظيفتهم هي المساعدة على حل المشكلات، فإن فشلهم في حلها، ليس مما يقع على عاتقهم. ودائما ما يُلقى الفشل على عاتق الأطراف الأخرى. ولم يحدث أن قام الأمين العام بإقالة واحد من مبعوثيه بسبب فشله. يستقيل من مهمته فقط، ليتم تكليفه بمهمة أخرى في الأمانة العامة، ريثما يتم إرساله إلى بلد آخر. ما يجعل وظيفة “مبعوث الأمين العام” أفضل وظيفة في العالم. لأنها الوظيفة الوحيدة التي لا تتطلب تحقيق النجاح. والفشل فيها مقبول حتى ولو تكرّر لعدة مرات.
إنها حقا “وظيفة الأحلام” لكل باحث عن “منصب دولي” من دون أن يكون مطلوبا منه أن يحقق أي شيء. فقط يعقد اجتماعات، ويدلي بتصريحات إيجابية عن “تحقيق تقدم في المفاوضات”، وعن ضرورة “التوصل إلى حلول وسط”، وإذا كان هناك سلاح، فعن الحاجة إلى “التخلي عن أعمال العنف”، وهكذا.
وهناك سلسلة من الصياغات الجاهزة، من هذا النوع، إلى درجة تُقنع المتأمل، بأن هناك “كتالوغا” معدا مسبقا، يتم تسليمه لمبعوث الأمين العام قبل أن يبدأ مهمته، لكي يقرأ منه في كل مؤتمر صحفي يعقده، بصرف النظر عن البلد الذي يتحدث فيه. وهي الصياغات نفسها، التي تستخدم في سوريا، كما تستخدم في ليبيا أو العراق أو اليمن. حتى أنك كمبعوث للأمين العام، لا تعاني من اجتراح قوالب أخرى. وليس مطلوبا منك أصلا، أن تقدم رأيا شخصيا. فبحكم أنك ممثل للأمم المتحدة كلها، فإن قوالبك اللغوية يجب أن تكون متعالية إلى درجة أنها لا تعني شيئا يتعلق بالأمر الواقع الذي جئت لكي تبحث عن مخارج له.
شيء ممتع بالفعل.
هم في الكثير من الأحيان شهود زور. واحدة من أطولهم عمرا في الوظيفة، شهدت كل أنواع التزوير والانتهاكات للقواعد الانتخابية السليمة، إلا أنها لم تشكك في أي نتيجة، ولم تخرج لتقول إن الانتخابات لا تتوافق مع المعايير.
وهناك سبب “وجيه” لذلك، هو أن الأمم المتحدة لا يهمّها من يفوز أو يخسر. كما لا يهمها أن تكون الانتخابات قد غرقت نتائجها بالانتهاكات، ولكن يهمّها أن تُجرى فقط، أملا بتحويلها إلى “عادة”، يفترض أن يتحسن أداؤها في المرة القادمة. صحيح أن ذلك يعني بقاء الأزمة. ولكنه يعني بقاء المبعوث الدولي في وظيفته أيضا.
ممثلة أخرى للأمين العام، خاضت في كل التجارب من أجل جمع الفرقاء على إجراء انتخابات، لأجل تعيين حكومة شرعية، إلا أنها انتهت بحكومتين غير شرعيتين بدلا من واحدة.
وهناك مبعوث دولي أخطأ في كل شيء، حتى في فهم بديهيات الأزمة التي بين يديه، ولا يزال يبدو وكأنه يحقق “تقدما” لا يوهم به إلا نفسه. ففي بلد يقوم النزاع فيه بين شعب وسلطة طغيان، لم يفهم مبعوث الأمين العام أن جوهر المشكلة هو أن سلطة العصابة التي تحكمه، لا تريد أن تقدم أي تنازل. وكأي سلطة عصابة، تحكم وفقا لمعاييرها الخاصة، فإن “دولة القانون” هي آخر ما يمكن السماح به. وبينما ظلت المطالب تتناطح مع بعضها لعقد ونيف من الزمان، فقد غابت “دولة القانون”، عن أن تتصدر جدول أعمال لجان التفاوض. لفّتْ السجالات السبع لفات، ولكنها لم تصل إلى البديهي والبسيط والأولي والأساسي الذي لا يمكن تحقيق تقدم من دونه.
المبعوثون الدوليون، يمتلكون خبرات دبلوماسية وطيدة، في عالمهم الخاص. وحتى لو جاؤوا إلى الوظيفة من بيئة محلية، فإن اشتراطاتها تعيد قولبة مقارباتهم لتكون مقاربات “وساطة” وليس مقاربات حلول. لا تتطلب فهما لطبيعة الأطراف المتنازعة، ولكنها تتطلب مهارات للجمع بينها. لا تتطلب أيضا فهم الحل نفسه، ولا وضع آليات للوصول إليه، بناء على عصف ذهني سابق، ولكنها تتطلب “تنازل” من هنا، و”تنازل” من هناك.
يهبط مبعوث الأمين العام، بالبراشوت، على أزمة. ويبدأ عمله السياحي بين أطرافها. يسمع كلاما طيّبا واستعدادات إيجابية من الجميع، فيظن أن الأمور ستكون بخير. ولكن آخر ما يعنيه هو أن يتصرف كشريك في الحل. واجبه يملي عليه أن يكون وسيطا فقط في حل يصنعه المتنازعون.
صياغات بليدة من قبيل “حوار يملكه السوريون، بقيادة سورية” على سبيل المثال، تكشف عن هذا المعنى (الموجود في الكاتالوغ)، وهو أن الأمم المتحدة ليست طرفا في الحل، لأنها ليست طرفا في النزاع. بينما الواقع يقول، إنها معنية بالحل، حتى وإن لم تكن طرفا بالنزاع. الفرق كبير. وهو يتطلب: أن نفهم الأزمة، ونفهم نوازع وموانع ومطالب أطرافها، ونضع خارطة طريق للحل، يُعنى بإرساء الأسس أولا.
حل الأزمات مثل شق طريق، أو بناء عمارة، يتطلب “بنية تحتية” متينة ومحايدة وموثوق بها من القواعد البنيوية. الحلول تبدأ من هناك. تصنع نفسها من هناك. لا في المفاوضات حول المطالب المتضاربة والمخاوف الشائكة، والتحفظات المضمرة، والمخادعات المتبادلة.
مبعوثو الأمين العام يفشلون باستمرار، لأنهم ليسوا معنيين لا بالأزمة ولا بحلولها. إنهم وسطاء بين أطرافها ويقصدون تلبية مطالبهم، أو بعضها، ليتم بناء “تسوية” فوق رمال متحركة. وكلما انهارت، تم إرسال مبعوث جديد للأمين العام. ومن حيث نتائجها، فإنها أسوأ وظيفة في العالم.
المصدر: العرب