أن تجوع بلاد كانت يوماً السلة الغذائية للمنطقة، ومشهود لشعبها بالنشاط والإنتاج، وتعتبر الزراعة فيها مهنة قديمة، وأكثر من ثلث شعبها يشتغل بالزراعة، وتملك أرضاً صالحة للزراعة بحجم مساحة الأردن تقريباً، فتلك معادلة فيها خلل كبير يستلزم إصلاحه، احتراماً لكرامة شعب بذل النفيس والغالي للعيش بكرامة.
مثل التصحر والجراد، يزحف الجوع يومياً ليغطّي مساحات جديدة من القطاعات الاجتماعية، ويقضم فئات وشرائح اجتماعية من قائمة الاكتفاء ليقذفها في أتون العوز، وترتفع الأسعار بشكل جنوني لا منطق له، ويصبح سقفها أعلى من قدرة أيدي الغالبية على الإمساك به.
تنازل السوريون عن كثير من عاداتهم الغذائية، انتهت ظاهرة الموائد العامرة التي كانت تتفنن النساء السوريات بصناعتها، حتى من أبسط العناصر والأصناف، لم تعد لا الجودة ولا تنوع المائدة وشكلها مطلباً للسوريين، غير أن ذلك لم يشفع لهم عند غول الجوع الذي يفرد أطرافه بدون وجل أو احترام لانكسار السوريين.
في عز أزمة الجوع، تأتي الأخبار من دمشق عن صراع آل الأسد ومخلوف على الفوز بثروات البلاد، ويشتري بشّار لوحة لزوجته بمبلغ 30 مليون دولار، زوجته التي تعمل على انتهاز الفرصة، فرصة جوع السوريين، لزيادة ثروات أبناء خالاتها وعمومتها، ويتحالف زوجها مع الذين أثروا من حربه على الشعب السوري، ويغضب “طباخ بوتين” لأن إيرادات مشاريعه في سورية أقل من المتوقع، فيما تطالب إيران بحصصها ومستحقاتها من “البوفيه” السوري المفتوح، ليذكّرنا هذا المشهد بالمثل الشامي “واحد طالعة مصارينه (أمعاؤه) والآخر يقول له أعطني قطعة لقطتي”.
تكتمل عبثية هذه الوقائع، مع ظهور من يقول إن سورية “نظام الأسد” انتصرت على المؤامرة، من دون أن يوضح ماهية النصر والمؤامرة، فإذا كان المهزومون هم ملايين أطفال السوريين الذين شرّدتهم هذه الحرب، وإفقار جميع السوريين، وخضوع الأرض السورية لاحتلال خمسة جيوش، وإذا كان الثمن لقمة السوريين، فلا بد أن يكون هذا المنتصر عدوا لدودا، أو أن هذه الـ”سورية” التي انتصرت هي من جنس الآلهة الإسطورية التي يتم إرضاؤها بملايين الأرواح قرابين!
المشكلة أن الثمن الذي يدفعه الشعب السوري هو استحقاق بقاء نظام العصابة في الحكم، والمشكلة أن هذه العصابة لم تكتف بكل هذا الدمار، بل تريد أن تبقى جاثمة على صدور السوريين حتى آخر نفس، ولم يشفع للموالين تضحياتهم وتقديم أبنائهم فداءً لهذه العصابة، حيث يرفض بشار تقديم أدنى تنازل لهؤلاء يخفّف عنهم هذا الشقاء والإذلال.
يرفض بشار الأسد مليارات إعادة الإعمار ورفع العقوبات عن سورية، مقابل عملية سياسية يكون هو أحد الشركاء فيها. قدّمت دول العالم تسهيلات هائلة للأسد، يمكن وصفها بالتدليل، لم يعد أحد يشترط حصول عملية انتقال للسلطة، ولا إقصاء الأسد عن السلطة، ولا إطاحة النظام وسوى ذلك من مطالب، المطلوب، بعد أنهار الدم التي تدفقت عملية سياسية تشارك بها المعارضة، عملية تستطيع من خلالها الأطراف الدولية إيجاد مبرّر لتراجعها عن العقوبات ومساهمتها في تمويل مشروع الإعمار، ومساعدة السوريين على العودة إلى ديارهم والاستقرار في منازلهم بدل البقاء في مخيمات اللجوء وعلى حدود الدول.
يفاخر أنصار الأسد بأن معلمهم يرفض هذه المطالب، لأن قبولها نوع من التنازل، إعمار سورية وكرامة شعبها وإنقاذهم من الفقر والجوع تنازل، تنازل عن ماذا؟ ثم أية قيم تلك التي يمثلها بشار الأسد، ويدافع عنها، تشكل نموذجاً لا يجوز خدشه، أو التنازل عن أي فاصلة فيه؟ بشار الأسد يقدم تنازلات بالجملة لإسرائيل وإيران روسيا، لم يبق شيء لم يتنازل عنه، ثروات البلاد وسيادتها ومكانة منصب الرئاسة، الشيء الوحيد الذي يرفض التنازل عنه إذلال السوريين وإفقارهم.
يدفع السوريون الثمن الذي يجب أن تدفعه العصابة الحاكمة التي قتلت ودمّرت وسرقت، وفي وقت يتشهى فيه السوريون الملح، تعيش العصابة أنماط حياة فاجرة، حسب وصف صحيفة روسية، حيث يستعرضون السيارات الفاخرة والطائرات الخاصة، يتنافسون من يحصل على ثروات أكثر من خبز السوريين، ومن يرضي الروسي والإيراني أكثر، يبعثرون ثروات البلاد رشىً لطباخ بوتين والمافيات الروسية، ويتشاطرون على السوريين، يقدمون أنفسهم لهم على أنهم أبناء قادة مقاومون، صنعوا أنفسهم بعصامية، وأصبحوا تجاراً مفوهين.
هذا الجوع السوري لا مبرّر له، فسورية الأسد لا تدافع عن مشروع وطني يستحق كل هذه التضحيات، بالأصل دمرت كل ما يتعلق بأي مشروع وطني عبر منحها ثروات البلاد مقابل احتفاظها بالسلطة، وخرّبت النسيج الوطني عبر ضربها مكونات الوطن بعضها لبعض، كما أن سورية الأسد ليست نموذجاً يُراد الحفاظ عليه والدفاع عنه، فلم تكن يوماً سوى جمهورية خوف وإذلال تحكمها عصابةٌ لا قيم ولا أخلاق لها، وهي ليست نموذجاً سوى للساديين وعديمي الضمائر.
المشكلة أن الجوع السوري بلا أفق ولا ضوء في نهاية النفق، الأمل الوحيد هو بإزاحة هذه العصابة عن صدر سورية، ولتكن ثورة جياع، وهي آتية، فالسوريون وإن كانت طاقتهم على الصبر كبيرة، فإن رؤية أبنائهم يتضوّرون جوعاً ستدفعهم لكسر جدران الخوف والدوس على رؤوس العصابة التي أذاقتهم الذل والهوان.
المصدر: العربي الجديد