مع دخول الثورة السورية عامها العاشر، ووسط جمود واضح في المسار السياسي، وتجاهل المجتمع الدولي للتصعيد العسكري الذي انتهجته عصابات الأسد المدعومة من الطيران الروسي والمليشيات التابعة لإيران، جاءت التسريبات الصحفية الروسية والتي خلصت إلى أن المشاكل الكبرى في الاقتصاد السوري، ونظام الفساد المهيمن، لا يتركان فرصة للتطور الطبيعي بعد انتهاء الحرب.
وأياً كانت أسباب الهجوم الإعلامي الروسي غير المسبوق على فساد النظام في سورية، فإنه توضع علامات إستفهام كبيرة حول قناعة صاحبي القرار في موسكو حول إحتمال انفجار الأوضاع الاجتماعية بسبب التراجع الاقتصادي، ما قد يفقد روسيا تأثيرها في الداخل السوري، وكذلك مناطق النفوذ الحالية بين القوى الإقليمية والدولية على الأرض بانتظار انقشاع أزمة كورونا والتوافق على تسوية سياسية قابلة للتنفيذ.
كل ذلك يطرح ضرورة تقييم ما آلت إليه العملية السياسية، ومحاولة الإستفادة من الشروخ المحتملة بين تحالف القوى المعادية للثورة، قبل أن تتحرك المياه الراكدة من جديد وعودة إنقسام السوريين ما بين مؤيدين للمشاركة في هذه اللجنة الدستورية ومعارضين لها. دولياً، يمكن إعتبار بداية مسار الحل السياسي الخاص بسورية مع بيان جنيف-1 مروراً بفكرة السلال الأربعة وبيانات فيينا 1 و2 والقرار 2254، وإنتهاءاً باللجنة الدستورية.
حيث إنطلق بيان جنيف من العام إلى الخاص، فبعد أن حدد الشروط الأساسية لأية تسوية سياسية، وهي: (الشمول، وتحقيق الانتقال السياسي، والمصداقية، والجدول الزمني) تحدث عن الخطوات التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الانتقال السياسي، وهي: هيئة الحكم الانتقالية التي تهيئ بيئة آمنة ومحيادة يجري خلالها حوار وطني شامل، قد يفضي إلى إعادة النظر في النظام الدستوري السوري، تجري بعدها إنتخابات حرة ونزيهة.
وقد طرأ التحول الأول على المقاربة السابقة عبر فكرة السلال الأربعة التي طرحها المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا في منتصف 2015، وإعتمدت رسمياً من قبل مجلس الأمن في بيان له في آب 2015، حيث أيد هذه الفكرة كإطار تنفيذي لبيان جنيف.
يظهر مما تقدم، أن من أهم النقاط التي جاءت في البيان هي عدم حصرية الإنتقال السياسي عبر إنشاء هيئة الحكم الإنتقالية، حيث أن البيان هو أول وثيقة أممية أفسحت المجال لذلك عندما نصت على عبارة (بطرق منها إنشاء هيئة حكم إنتقالية). وعدم حصر تمثيل المعارضة بالإئتلاف الوطني، حيث مهدت هذه الإجراءات لفكرة الهيئة العليا للمفاوضات، والتي أضحت حالياً هيئة التفاوض السورية.
لقد مثلت فكرة السلال الأربع التي طرحها ديمستورا في منتصف 2015 وماتلاها من صدور القرار 2254 إطاراً قانونياً مهدت فعلياً وسياسياً للتركيز على سلة الدستور والإنتخابات وتغييب بقية السلال، خصوصاً المتعلقة بالحكم الإنتقالي.
وإن كانت المعارضة خلال السنوات الماضية قد تمسكت بمضامين جنيف-1 والقرار الأممي 2254 كمرجعية ينطلق من خلالها أي تصور لحل سياسي مقبل في سورية، إلا أن مسار الأحداث الميداني والسياسي، ودخول روسيا على خط الصراع العسكري، بالإضافة إلى تقاعس المجتمع الدولي عن إتخاذ خطوة جادة إتجاه المحنة التي عاشها الشعب السوري، دفع المعارضة لتقديم العديد من التنازلات بهدف تحريك مسار الحل السياسي.
لقد استغلت روسيا التجاهل الدولي، وعملت على التأثير بالتصور الأممي للحل السياسي مستغلة التغيرات العسكرية على الأرض، وذلك من خلال فرضها ما سمي (حكم ذو مصداقية) كبديل عن (هيئة حكم إنتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية)، كما تم التحايل على أولويات تنفيذ القرارات الأممية وذلك بتحويلها من الشكل المتوازي بحيث وضعت السلال الأربعة ضمن مستوى واحد يتم العمل فيها بالتوازي.
إن نظرة سريعة إلى التحولات الكثيرة والعميقة التي طرأت على أبرز أسس الحل السياسي في سورية، تبين إلى أن تغيراً سياسياً طرأ لم ينتبه إليه كثير من السوريين بدأ من القرار 2254 وتم التركيز عليه ضمن سلال ديمستورا الأربع، حيث يشكل إقراراً صريحاً وتنازلاً عن بند (هيئة الحكم الإنتقالية) لصالح الطرح الحديث الذي يركز على حكم (شامل ذو مصداقية)، وبالتالي لم يعد أمام السوريين وفق المعطيات الحالية إلا التمسك بشروط البيئة الأمنة والمحايدة وكتابة الدستور السوري وصولاً للإنتخابات، خاصة وأن فكرة العمل في السلال الأخرى على التوازي غير قابل للتحقيق.
وإن كانت بعض التقديرات تصل إلى أن التوجهات الدولية تشير إلى رغبة عامة في المحافظة على شكل النظام الحالي، مع إمكانية التخلي عن رأسه، في توجه مشابه لإستنساخ نموذج كارزاي أفغانستان أو قاديروف الشيشان، وإستبدال رأس النظام برجل جديد محسوب على الأطراف الدولية المسيطرة، بشكل يوحي للنالس بحدوث تغيير ولوشكلي.
فإنه ووفقاً لمجريات الأمور في جولتي اللجنة الدستورية فإنه يمكن القول بأنه طالما أن النظام يرفض تقديم التنازلات الكبيرة، والغرب لا يقبل بقاء النظام على سدة الحكم، من المحال أن نتصور تسوية سياسية في الأفق المنظور، ويفترض بالنخب السورية حالياً إستثمار الوقت بدراسة التجارب الإنسانية الأخرى لمعرفة كيفية الوصول إلى المبادئ المعيارية القانونية والسياسية الموجهة لديمقراطياتها المعاصرة، بالأخذ بالإعتبار خصوصيات أوضاعنا وثقافتنا وتطلعات شعبنا في محاولة لتقوية مالديها من تصورات عن كيفية بناء سورية المستقبل.
المصدر: صحيفة إشراق