عواد جاسم الجدي روائي سوري، ينتمي للثورة السورية، هذا أول عمل أدبي أقرأه له. صداع في رأس الزمن، رواية أخرى تتحدث عن الثورة السورية وتداعياتها وتطورات عنف النظام المستبد المجرم، والانتقال إلى العنف
المسلح، والتدخلات الإقليمية والدولية، التي ساهمت في زيادة الضحايا والمآسي على السوريين. زمان الرواية منذ بداية الثورة ربيع عام ٢٠١١م
ومكانها مدينة دير الزور وما حولها من بلدات على ضفاف الفرات في الشرق السوري
تعتمد الرواية أسلوب السرد على لسان الشخصية المحورية فيها أسامة بلغة المتكلم، بحيث يتداخل العام المُعاش اليومي مع الخاص لحياة
أسامة وعائلته والمحيط به، مع التداعيات النفسية لكل ذلك، كذلك استرجاع اسامة لما عاشه في ماضي حياته، أو ما يأمل أن يكون عليه
وما حصل فعلا على أرض الواقع
الرواية ترصد حياة اسامة وعائلته من الأيام الأولى للحراك الشعبي السلمي للثورة، ومشاركة أسامة الناس في بلدته بالثورة والتظاهر، ثم
انتقال النظام المجرم الى العنف بحق المتظاهرين، واعتقالهم وزجهم بالسجون أو قتلهم حتى. وكيف فكر أسامة وعائلته بالهروب من
البلدة الى اي مكان أكثر أمنا، لتطول رحلته الى سنوات خمسة تقريبا يدوّن الراوي اسامة تفاصيلها في رواية تعتبر طويلة ٤٠٣ صفحة
اسامة ابن بلدة مجاورة لدير الزور، تتربع على ضفتي الفرات، متشبع بالانتماء النفسي والمجتمعي الى البيئة الفراتية، يحمل شهادة ماجستير في التنمية البشرية، عندما حصلت الثورة السورية في ربيع ٢٠١١م. وجدها كما أغلب الشعب السوري فرصة لإسقاط الاستبداد والفساد والمظلومية العامة وبناء دولة الحرية والعدالة والديمقراطية، فرصة لاسترداد الكرامة الانسانية المهدورة. كان وجها اجتماعيا معارضا للنظام ضمنا، لذلك شارك بالفعاليات السلمية من تظاهرات واعتصامات ونشاطات تنسيقية. ولأن النظام لم يقبل هذا الحراك وقرر القضاء عليه وعلى الفاعلين فيه. ابتدأ بالعنف البدني ثم المسلح واعتقال الناشطين وقياداتهم.
أسامة متزوج ولديه اربعة اولاد يعيش مع والدته في منزل العائلة، له اخوة موزعين في سوريا، وله أخ يعمل في السعودية. علم اسامة أنه مستهدف بالاعتقال، استشار أمه وعائلته، نصحوه بالهرب شمالا ليصل إلى الحدود السورية التركية، لأن النظام لن يرحمه ان اعتقله وقد يقتله. جمع أوراقه الثبوتية المهمة، وبعض الحاجيات الضرورية، وتوجه مع عائلته الى مدينة تل ابيض الحدودية مع تركيا، هناك دخل إلى تركيا التي فتحت حدودها في سنوات الثورة الأولى أمام السوريين الهاربين من جحيم النظام. ومن تل أبيض توجه الى مخيمات صنعتها الدولة التركية مع المنظمات الاغاثية المدنية واستقر مع أسرته فيها. هناك تعرّف على كثير من الهاربين السوريين من الموت المحيط بهم، ومنهم عائلة مؤلفة من أم واولادها، حيث كان زوجها قد اعتقل من النظام وقد يكون قتل. أصبح بينهم تواد وتراحم، سندس صبية بنت تلك العائلة في مقتبل العمر، تعلقت باسامة وجعلته قدوتها وهو احتضنها وصارت مقرّبة له في جميع مناشطه.
في المخيم ساعد اسامة في التنظيم واستقبال الهاربين الجدد، فكر مع آخرين أن يفتتح دورات تعليمية للأطفال، وكذلك دورات في تنمية بشرية للكبار، تعيد لهم توازنهم النفسي والمجتمعي.
المخيم يعجّ بالمنظمات الإنسانية التي جاءت من البلاد العربية وغيرها. يديرها مجموعة المشايخ ورجال الدين. لاحظ اسامة الفساد والسطوة والاستغلال للنازحين لمصالح خاصة لهم. الناس صمتوا عن ذلك للحفاظ على الفتات الذي يأخذونه من هذه المنظمات. نشط أسامة وسندس مع هذه المنظمات. أحدهم احب سندس وفكر أن يعقد عليها قرانا مؤقتا، لكنها رفضت، وهذا ادى لتنسحب المنظمة الداعمة من المخيم، ويخسر الناس القليل القادم منهم. كذلك شجعت تركيا على أن يعمل الناس بما يستطيعوا ليساعدوا أنفسهم في مواجهة الحياة، واشيع احتمال اغلاق المخيم. عندها فكر أسامة أن ينتقل للسكن في أورفا المدينة التركية العريقة، خاصة وإنه قد حصل على مساعدة مالية من أخيه المقيم في الخليج. ذهب هو وسندس التي تعلقت به الى اورفا للبحث عن بيت مناسب، هو متزوج و مخلص لزوجته وعائلته، تسلل إلى نفسه حب سندس، لكنه عاهد نفسه أن لا يخذل زوجته ولا والدة سندس وأن لا يتصرف معها خارج الأصول، كان لابدّ من نومهم في فندق وهذا تطلب المبيت سوية في غرفة واحدة، استشار ام سندس بعقد قرانه عليها. قبلت الام ذلك صيانة لشرف ابنتها. حصل بالفعل ولم يمسسها ابدا، يعني زواج صوري.
منذ ذلك الوقت تعلقت سندس بأسامة كثيرا. انتقلت معهم الى بيتهم الجديد في اورفا، وبقيت عندهم لفترة طويلة، برضى الزوجة التي لا تعرف بعقد القران طبعا، التي احتضنت الصبية وكذلك برضى والدتها، حيث ثقتهم باسامة وعائلته يحمي سندس من ظروف المخيم الذي استمروا بالعيش فيه مكرهين.
بعد مرور الوقت في عيش أسامة وعائلته في تركيا، و متابعته للتطورات في سوريا وخاصة في دير الزور واطرافها. كانت الأحوال تنتقل من سيء لأسوأ، حيث خرجت المنطقة من سيطرة النظام لتدخل تحت سيطرة داعش أصحاب الرايات السوداء، ورأى ان ولادة داعش لم تكن صدفة، فهي ابنة النظام وحلفاؤه الإيرانيون، جاءت لتحتل أماكن الثوار المحررة، وتقدّم للنظام طوق نجاة من أن في سوريا ارهاب وحرب اهلية، وتختفي مقولة الثورة ضد الاستبداد، وليعلن العالم عن حربه ضد الارهاب وداعش، ويصمت عن النظام الذي تقوى بحضور الإيرانيين والميليشيات الطائفية الأفغانية وحزب الله اللبناني، والتدخل الروسي بكل جبروته و تدمير البلاد وقتل الناس وتهجيرهم، في حلب وكل سوريا تباعا.
رغم ذلك قرر أسامة ان يغامر ويذهب لزيارة والدته التي كانت في البلدة ايام احتلالها من قبل داعش. وصل الى هناك واعتقلوه، وكاد ان يُقتل كما حصل مع الكثيرين لولا ان تعرف عليه احد مشايخ داعش وهو يعرفه، ويعرف أن هذا الشيخ المدعى صديقه سابقا كان ضابطا في المخابرات، أنقذه وجعله يغادر منطقة داعش. هذا الذي حصل جعله يتأكد أن داعش صنيعة النظام وضد الثورة والشعب.
تراكم كل هذه المعلومات وان القضية السورية السورية مفتوحة على احتمالات تزداد سوء يوما بعد يوم، وبعد مضي سنوات، وأن واقع الحياة في تركيا نفسها أصبح أكثر صعوبة، خاصة بعدما انكفأت الكثير من المؤسسات المدعومة إقليميا ودوليا، وتبين وكأن السوريين متروكين لمستقبل غامض ومخيف.
لذلك كله قرر أسامة أن يغامر في رحلة اللجوء الى اوروبا، حيث ذهب وابنه الاكبر الى الحدود اليونانية ليخوض المغامرة ومن ثم يعمل للمّ الشمل مع العائلة، لكنه عدل عن الفكرة الذهاب مع ابنه فقط، ودعمه أخاه بالمال ليذهب هو وعائلته كاملة الى اوروبا تهريبا بالبلم إلى اليونان ومنها إلى أوروبا.
التحقت به عائلته وبالفعل اتفقوا مع مهرب، وبظروف سرية واجواء غير مريحة تجمعوا وانتقلوا لاكثر من مكان ثم وصلوا الى بلم ركبوه مع إخرين وصل عددهم الى حوالي الخمسين انسان. بين طفل وامرأة ورجل وبينهم كبار السن. انتقل بهم البلم الى الطرف اليوناني، في ظروف صعبة، وهناك من تلك الجزيرة التي وصلوها ابتدؤوا رحلة التنقل داخل اليونان ومنها الى دول أوروبا الشرقية التي لم تستقبلهم الا عابرين، وهم لم يكونوا راغبين بالعيش فيها، ومنها الى النمسا ومن النمسا الى المانيا.
في ألمانيا وقبلها النمسا كانت معاملة الناس والدولة والجمعيات الخيرية والبلديات والكنائس، كلها مرحبة داعمة وحاضنة، انتقلوا في ألمانيا بين كثير من المخيمات والمدن، كانوا من جنسيات مختلفة سوريين وافغان وعراقيين…الخ. وبدؤوا يجمعون السوريين مع بعضهم ويرسلونهم إلى مدن محددة. كان مستقر أسامة وعائلته اخيرا في إحداها.
قدم اسامة نفسه بالانجليزية التي يتقنها للألمان، شرح لهم مصابنا نحن السوريين، واخبرهم عن اختصاصه وانه مستعد ان يقوم بدور ما مع اللاجئين السوريين لإعادة تأهيلهم ومساعدتهم للتأقلم وتقبّل مصابهم والبدء من جديد في وطنهم ألمانيا.
لم ينقطع شوق اسامة للبلاد والاهل خاصة والدته، كان دائم التذكر لكل شيء في حياته السابقة، وأنه من الصعب أن يتأقلم وينغرس في هذه الحياة، خاصة أن جزء من قلبه هناك؛ أمه في البلدة وسندس التي اعترف لنفسه انه يحبها، في المخيم على الحدود التركية السورية.
أما الألمان الذين احتضنوا اللاجئين فقد دفعوهم للانخراط في المجتمع الجديد. تعلم اللغة اولا. ثم التفاعل مع الناس ومن بعد ذلك الوصول إلى مرحلة الانخراط في العمل في مجتمع يقدس العمل والنظام والإنتاجية.
صنع اسامة لنفسه شبكة علاقات من الألمان كان يتبادل معهم الحديث، احدهم يكبره في السن تبنّى أسامة وعائلته وساعده كثيرا، حدثه عن التاريخ وعن مصائب الناس والحرب العالمية الثانية، والمآسي التي حصلت في ألمانيا. احتلالها وتقسيمها. وعندما تحررت صنعت نفسها معجزة للعالم. ومن ثم توحدت. اكد له ان المهم البشر وإرادة الحرية والعمل الجاد لبناء الحياة الأفضل. أكد أسامة وصديقه على أن ما يحصل في سوريا أكبر من السوريين أنفسهم نظاما وشعبا. لقد اصبحوا ضحية تدخلات دولية واقليمية وهم الموتى والمشردين والمعتقلين، بلادهم مدمرة واحوالهم مأساوية، لكن لا بديل للسوريين إلا البداية من جديد حيث هم وأينما وصلوا.
تفاعل ذلك الالماني معه كثيرا، قدم له كل المساعدة المادية والمعنوية التي كان اسامة يحتاج لها، وفي النهاية قدم له هدايا رمزية مع رسالة مطولة تحدث بها عن نفسه أنه من يهود العراق كان طفلا في عام ١٩٤٨م وقت اغتصاب بعض فلسطين، وكيف ضاع يهود البلاد العربية بين اغراءات الصهيونية العالمية والدعوة للذهاب إلى أرض الميعاد ، وبين مضايقات الانظمة وبعض الناس حيث حملوهم كيهود مسؤولية ما حصل في فلسطين؛ المجازر والطرد وتدمير القرى وبناء الكيان الصهيوني على جزء من أرض فلسطين. حدثّه كيف غادر مع جده من العراق إلى ألمانيا وفيها عاش وترعرع، سمع من جده الكثير عن حبه للعراق ووفائه لناسها، لتواجدهم وتعايشهم هناك منذ قرون. وانه يتفهم مصاب اسامة والسوريين وانه لذلك دعمه بكل امكاناته، ثم اختفى ذلك الالماني الاصيل.
لم يستطع أسامة التأقلم مع حياته الجديدة في المانيا وماضيه وبعض قلبه امه في الوكن وحبيبته في مخيم على الحدود.
حاول ان يعيد تعليم اللغة العربية للأطفال السوريين في مدينته الالمانية حيث يتواجد لكي لا يخسروا هويتهم، نموذجه في ذلك الأتراك المستقرين في ألمانيا منذ عقود، أنهم يشكلون مجتمعا متماسكا يتكلم لغته التركية ويحافظ على عاداته، وفي نفس الوقت مندمج بالدولة الألمانية وقوانينها.
قرر أسامة أن يعود إلى تركيا عبر التسلل من اليونان عبر البحر ليلتقي مع سندس حبيبته ويحضرها معه إلى ألمانيا، ويحقق لم الشمل الكامل. حصل ذلك بعد أن توفيت والدته وفقد رابطا قويا لما تبقى في نفسه مع الوطن، وبعد ان اخبر زوجته انه عقد قرانه على سندس، وانه لن يتركها ويغدر بها و تعيش حياة مأساوية في المخيم. غضبت زوجته بداية ثم تقبلت الامر الواقع. ذهب الى اليونان منتظرا سندس التي عبرت البحر على بلم لتأتي إليه حيث ينتظرها، علم أن البلم قد غرق ولم ينجو من ركابه أحد، حزن على سندس واحضر نعشها، ودفنها مسلّما بمشيئة الله. لكنه قبل العودة إلى ألمانيا خائبا جاءته رسالة على هاتفه تخبره أخبارا سارة…
يختم الكاتب روايته بجملة:
الرواية لم تنتهي.
في التعليق على الرواية نقول:
ان الكاتب ذكر شخصية الرمادي المنافق المداهن، يحضر في كثير من المواقف ليدافع عن النظام وما يفعله، ليواجهه أسامة ويفند ادعاءاته، هو أقرب للحوار داخل النفس، بين الركون للواقع والظلم وعدم مواجهة النظام إيثارا للسلامة، وبين ان يكون مع الثورة والشعب ويطالب بالحقوق مع ما يحمل هذا الخيار من تضحيات كبيرة، يستمر المنافق في الحضور في كل منعطفات حياة اسامة وعائلته، لكنه في النهاية يتقبل رأي اسامة ويقر بصحته، كتعبير عن انتصار مشاعر وعقل وأفكار اسامة وصحة ما فعله، متجاوزا أي هاجس يخطئه أو يجعله يندم على كل مسار حياته.
كذلك اننا امام رواية أخرى تعيد سرد حكاية الثورة السورية منذ بدايتها وإلى سنوات بعد ذلك. تتحدث عن واقع الناس في داخل سوريا تحت جحيم النظام وحلفاؤه والارهابيين داعش وأمثالها. وفي الخارج في بلاد اللجوء والمراحل التي مروا بها حتى استقروا وبدؤوا يصنعون لهم حياة جديدة.
الجديد في الرواية أنها صدرت هذا العام ٢٠٢٢م ، وأنها تتحدث بإسهاب عن واقع السوريين في بلاد اللجوء وهنا ألمانيا بالذات.
نعم لم تستطع الغربة ومضي السنين أن تنتزع الوطن حيث نشأنا وعشنا، ذكرى الأهل والأصحاب و كل مناشط الحياة، التي بدونها كنا عدما، بقيت حية في ذواتنا وقلوبنا، صحيح ان الاطفال والشباب كانوا اسرع تأقلما وأكثر اندماجا…
قطعا سيأتي يوم نصبح نحن السوريون وما حصل معنا حكاية يتداولها كبار السن يسمعها الصغار بعجب، وكثير سيمر عليها على أنها حكاية مملة…
قد يجد البعض أنها فرصة حياة أفضل حصلنا عليها نحن والأجيال القادمة دفع ثمنها مئات الآلاف من الشهداء، وان البعض تعثر في الحياة بعد التشرد واللجوء، وما زال يتجرع ألم عدم القدرة على بناء الحياة الأفضل.
السوريون حيث وصلوا وما حصل معهم كانوا نموذجا للثائرين ضد الظلم، و ضحايا القتل من قبل كل العالم، بعضهم بأسلحتهم وبعضهم بصمتهم ومباركتهم الضمنية، لكننا نبتنا حيث وصلنا وصنعنا مجدنا الجديد…هكذا علمتنا ثورة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية…