لا مفرّ من السلاح

مايكل يونغ

قد يكون نفوذ حماس يتنامى باطّراد، لكنها لم تنجح حتى الآن في تولّي دفة القيادة الوطنية. خالد الحروب أستاذ في كلية العلوم الإنسانية في جامعة نورثويسترن في قطر، وهو متخصّص في سياسات الشرق الأوسط، مع تركيز خاص على الإسلام والسياسة، والصراع العربي-الإسرائيلي، والدراسات الإعلامية العربية. درّس الحروب تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة كامبردج، وكان زميل أبحاث في مركز الدراسات الإسلامية في كلية الدراسات الآسيوية والشرق-أوسطية في الجامعة نفسها، حيث أسّس مشروع كامبردج للإعلام العربي الذي تولّى إدارته لغاية العام 2012. له كتاب Hamas: A Beginners Guide (حماس: دليل المبتدئ) (2006 و2010) وكتاب Hamas: Political Thought and Practice (حماس: الفكر والممارسة السياسية) (2000) ومؤلفات أخرى. أجرت “ديوان” مقابلة معه في منتصف تموز/يوليو لمعرفة رأيه بشأن حماس بعد أن أعرب قادتها عن ثقتهم بضرورة مواصلة نهج المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، ويبدو أنهم يعملون على تعزيز قدراتهم العسكرية في مخيمات اللاجئين في لبنان.

مايكل يونغ: يسود انطباع في صفوف قادة حماس بأن عامل الوقت يصب في صالح حركتهم، نظرًا إلى ضعف السلطة الفلسطينية وتراجع شرعية الرئيس الفلسطيني محمود عباس. ما تقييمك لهذا التفاؤل، وهل تعتقد أن حماس تحظى بالتأييد اللازم لقيادة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي؟

خالد الحروب: ضمن إطار زمني أوسع، الملاحظة الملفتة للغاية التي يمكن تسجيلها عن أداء حماس هي أنها منذ تأسيسها قبل 35 عامًا لم تنجح حتى الآن في تولّي القيادة الوطنية، على الرغم من أن نفوذها يتنامى باطّراد. ومنذ ولادتها خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى بين العامَين 1987 و1993، لا تزال حماس تسير بخطى ثابتة نحو تعزيز نفوذها وشرعيتها. وقد اكتسبت زخمًا كبيرًا خلال الانتفاضة الثانية في الفترة ما بين العامَين 2000 و2004. فشلت اتفاقيات أوسلو في إقامة دولة فلسطينية بحلول العام 1999، ما عزّز نفوذ حماس و”مشروع مقاومتها”. وبلغت حماس أوج نجاحها، إذا جاز التعبير، بعد فوزها في انتخابات العام 2006 ثم سيطرتها على قطاع غزة في العام التالي. وتجلّى صعود نجمها بوضوح أيضًا في الضفة الغربية وفي أوساط المجتمعات المحلية الفلسطينية ومخيمات اللاجئين خارج فلسطين. وعلى الرغم من الانتكاسات التي لطالما مُنيت بها، يبقى أن مسارها العام اتّسم بتعاظم نفوذها على نحو مستمر في صفوف الفلسطينيين وفي المجال الدبلوماسي والعلاقات الخارجية مع دول العالم والجهات غير الحكومية. إذًا، تُعزى ثقة حماس بأن الوقت حليفها إلى صعودها بخطى ثابتة سُلّم النفوذ ومراكمتها الرصيد السياسي.

مع ذلك، وكما ذكرتُ سابقًا، لم تنجح حماس على الرغم من إنجازاتها في تولّي قيادة الفلسطينيين على المستوى الوطني. تتعدّد أسباب ذلك، لكن يمكن الإشارة إلى الدور الذي أدّاه اللاعبين البارزين في الشأن الفلسطيني، ولا سيما إسرائيل والولايات المتحدة والأنظمة العربية مثل مصر والأردن ودول الخليج في تقديم دعم قوي لمنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ضد حماس.

ويُعزى سبب آخر إلى ديناميكيات السياسات الفلسطينية الداخلية والمجتمع الفلسطيني. لقد حقّقت حماس نجاحًا معتدلًا من خلال تغليب طابعها كحركة فلسطينية، على حساب طابعها كحركة إسلامية. وعلى الرغم من أن حماس نفت في وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي أصدرتها في العام 2017 أي ارتباط رسمي بالإخوان المسلمين، تبقى إيديولوجيتها وسلوكها الاجتماعي والثقافي رهن الاعتبارات الدينية، وبالتالي لا يشملان الجميع. وقد ضيّقت هذه الحقيقة المواقع التي يمكن أن تشغلها حماس والفئات التي يمكن أن تمثّلها. يعود قدر كبير من الشعبية التي تحظى به حماس إلى الدعم الفلسطيني لاستراتيجيتها حول المقاومة وليس إلى رؤيتها حول الإيديولوجيا الإسلامية. نشهد اليوم استمرارًا لمنحى بدأ منذ سنوات ازدادت خلاله حماس نفوذًا، بيد أنها فشلت في ترجمة هذا الرصيد السياسي والعسكري على مستوى القيادة الوطنية.

يونغ: كيف تصف العلاقة بين إيران وحماس اليوم، بعد التوترات التي تأجّجت خلال الانتفاضة السورية حين عارضت حماس السياسات التي انتهجها نظام الرئيس بشار الأسد؟

الحروب: لقد عادت هذه العلاقة إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الانتفاضة. في الوقت الراهن، تحتاج حماس وإيران إلى بعضهما البعض، ولا سيما على ضوء الديناميكيات الإقليمية المتغيّرة والتحالفات الناشئة، وخصوصًا بين إسرائيل وبعض الدول العربية. لقد تجاوزت حماس وإيران المرارة التي سادت بينهما خلال السنوات القليلة الماضية بعد تدهور العلاقت خلال الانتفاضات العربية وقرار حماس بالوقوف إلى جانب الشعب السوري في وجه نظام الأسد. آنذاك، أي في فترة 2011-2012، عقدت حماس آمالًا كبرى على صعود الإسلاميين المصريين، معوّلةً على أن وجود مصر إلى جانبها سيعوّض لها خسارة سورية وتراجع علاقتها مع إيران. لكن هذه الآمال تحطّمت في العام التالي بعد انتهاء حكم الإخوان المسلمين في مصر. ثم سلكت الأحداث في مصر ودول عربية أخرى منعطفًا حادًّا مناهضًا للانتفاضات وللإسلاميين، وتكبّد قادة حماس خسارة مزدوجة، إذ فقدوا دعم مصر من جهة، ودعم إيران وسورية من جهة أخرى.

وازدادت أمور حماس سوءًا على وقع الاتفاقات الإبراهيمية، التي أصبحت إسرائيل بموجبها حليفة عدد من الدول العربية في وجه ما اعتبرته تهديدًا إيرانيًا محدقًا. وقد دفع كل ذلك حماس إلى ترميم علاقتها مع إيران، وربما مع سورية قريبًا. أما إيران فتعتبر من جهتها أن إصلاح علاقتها مع حماس والإعلان على الملأ عن دعمها المالي والعسكري لها أمر أساسي من أجل تعزيز توسعها الإقليمي. واقع الحال أن حماس تساعد طهران على تحقيق هدفَين: فهي تمثّل رابطًا بفلسطين، وهي قضية مهمة للعرب والمسلمين؛ وهي أيضًا حركة سنّية قوية وذات شعبية، ما يسهم في إظهار أن الدعم الذي تقدّمه إيران ليس حكرًا على الأحزاب والقضايا الشيعية. يُضاف إلى ذلك أن دعم حماس يسمح لإيران بتعزيز خطابها عن أنها تقود “محور المقاومة”، ما يجعل الحركة جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجية الإيرانية. وتماشيًا مع هذه الاستراتيجية، حافظت طهران على دعمها العسكري لحماس خلال حروب غزة، ومارست كما يبدو ضغوطًا على الحركة لتوجيه شكر علني لها على دعمها، وهو ما فعلته حماس مرارًا وتكرارًا.

يونغ: لفت مسؤول العلاقات العربية والإسلامية في حركة حماس خليل الحية في مقابلة أجرتها معه صحيفة الأخبار اللبنانية، إلى أنه بعد أن أجّل محمود عباس الانتخابات التشريعية الفلسطينية في نيسان/أبريل 2021، أدركت حماس أن مشروع المصالحة مع السلطة الفلسطينية لم يعد قائمًا، ما دفعها إلى إعادة إحياء “مشروع المقاومة”. ما سبب هذا التحوّل؟

الحروب: ثمة دافعان أساسيان لذلك. الأول هو الطريق المسدود الذي تصطدم به أي مصالحة فلسطينية، وتُحمّل حماس محمود عباس مسؤوليته. فقد عرقل عباس فعليًا أي محاولة لإصلاح العملية السياسية الفلسطينية من شأنها السماح لحماس، أو أي حزب فلسطيني آخر، بتقاسم السلطة. وحتى داخل حركة فتح التي يترأسها، يُعتبر أن عباس يسيطر على جوانب السلطة كافة، إذ تجاهل طيلة سنوات الدعوات المطالِبة بإدخال إصلاحات على منظمة التحرير الفلسطينية، لتشمل حماس وحركة الجهاد الإسلامي، وتلك المطالِبة بعقد المؤتمر العام لفتح، التي تواجه تحديات داخلية وخارجية متنامية. يُضاف إلى ذلك أن بارقة الأمل الصغيرة التي كانت متمثّلة في إجراء انتخابات العام الفائت قد انطفأت لأن عباس كان يخشى أن تحقّق حماس فوزًا أكبر. لذا، وبعدما أُقفلت جميع الأبواب في وجهها، يبدو أن حماس قرّرت التركيز على أمور أخرى على الصعيدَين الاستراتيجي والدبلوماسي.

أما العامل الثاني فيتمثّل في نتيجة النزاع الذي خاضته حماس مع إسرائيل في أيار/مايو 2021، والذي أسمته “سيف القدس”. فبعد اعتداء الإسرائيليين والمستوطنين الإسرائيليين على حي الشيخ جراح في القدس واقتحامهم المسجد الأقصى بصورة متكررة، أطلقت حماس صواريخها باتجاه المدن الإسرائيلية وغيّرت مسار الأحداث، على الأقل بصورة مؤقتة. الجدير بالذكر أن هذه المواجهة كانت الحرب الصاروخية الأولى التي تندلع بين حماس وإسرائيل باسم القدس، واعتقد عدد كبير من الفلسطينيين أن بإمكان حماس وحدها وقف الإجراءات الإسرائيلية. نتيجةً لذلك، تعزّزت ثقة حماس بنفسها وازدادت شعبيتها. فقد أعلنت أنها دافعت عن الأقصى، وفي حين أن إسرائيل لا تُعير السلطة الفلسطينية اهتمامًا، أخذت في الحسبان إلى حدٍّ كبير تهديدات حماس وقراراتها.

لقد زادت حماس حدة نبرتها ضدّ إسرائيل وبدأت تدعو إلى مشروع مقاومة يغطي كامل الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، إيمانًا منها بأن هذا المطلب يحظى بدعم شعبي. في هذا السياق، أكّد استطلاع الرأي الأخير الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في آذار/مارس 2022، على تقييم حماس لقوتها وشعبيتها، بحيث أظهر أن 54 في المئة من الأشخاص المُستطلعة آراؤهم كانوا سيصوتون لإسماعيل هنية كي يتسلم سدة الرئاسة، مقابل 39 في المئة لمحمود عباس، لو أن الانتخابات أُجريت في موعدها المحدد. واعتبر 31 في المئة من المشاركين في الاستطلاع أن حماس “أكثر جدارة بتمثيل وقيادة الشعب الفلسطيني”، مقارنةً مع 29 في المئة من المشاركين الذين يعتقدون أن فتح يجب أن تمثّل الشعب الفلسطيني. وفي استطلاع سابق أجراه المركز في كانون الأول/ديسمبر 2020، عبّر 78 في المئة من الأشخاص المُستطلعة آراؤهم عن رغبتهم في استقالة عباس.

يونغ: فيما صرّحت حماس بأنها لا ترغب في خوض نزاع على القيادة بعد مغادرة عباس منصبه، تعتقد الحركة أن الولايات المتحدة وإسرائيل تفضلان حسين الشيخ، رئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية. نظرًا إلى الدور الأساسي الذي يؤدّيه الشيخ في التنسيق مع الإسرائيليين، ألا تعتقد أن التنازع على القيادة أمرٌ لا مفر منه؟

الحروب: من الصعب تصوّر أن تنخرط حماس بشكل مباشر في نزاع محتمل على القيادة بعد عباس. فهذه المسألة ستكون قضية داخلية داخل حركة فتح في الدرجة الأولى، وأعتقد أن حماس ستبقى على الحياد وتراقب الوضع بانتباه. إن فرص فوز حسين الشيخ كبيرة جدًّا لأنه يحظى بدعم كامل من إسرائيل والولايات المتحدة. وأظن أن عباس كان منشغلًا خلال العام الفائت بضمان بقاء الوضع على حاله، بما في ذلك التنسيق الأمني الوثيق مع إسرائيل ضدّ حماس في الضفة الغربية، ما سمح بدخول “اليد الإسرائيلية الخفية” نوعًا ما في قلب قيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية.

لقد اتّخذ عباس الكثير من القرارات المهمة والمثيرة للجدل المتعلقة بالمجلس الوطني الفلسطيني، وهو الهيئة التشريعية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والمجلس المركزي للمنظمة والأعضاء الجدد فيها واللجنة المركزية لحركة فتح، مستغلًا خوف فتح من صعود نجم حماس في الضفة الغربية. لكن قراراته لم تواجه سوى معارضة ضعيفة، لأن الكثير من قادة فتح فضلّوا وحدة الحركة على الخلافات الداخلية. لكن ثمة فصائل متنافسة داخل فتح، تختلف معظمها مع الشيخ أو على الأقل لا تؤيده. قد تنتظر حماس ريثما تطفو خلافات فتح على السطح، وتأخذ وقتها في التحضير لخطوتها التالية في الضفة الغربية أو على المستوى الوطني.

يونغ: ثمة تقارير عن قيام حماس بتعزيز وجودها العسكري في لبنان بمساعدة حزب الله. ما الدافع وراء ذلك، وهل تعتقد أن هذا الأمر يصب في إطار الجهود التي تبذلها حماس للعب دور أكبر في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، حيث تسيطر فتح؟

الحروب: هذا ليس مستبعدًا. فحماس تشعر بأن من حقها أن تفعل ما يفعله آخرون، وبخاصة حركة فتح، في لبنان أو غيره. وأعتقد أن خطوات حماس في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين هي جزء من استراتيجية أوسع نطاقًا لتعزيز وجودها في المجتمعات المحلية الفلسطينية خارج فلسطين، في إطار الجهود التي تبذلها من أجل قيادة هذه المجتمعات يومًا ما. وتتمثّل استراتيجيتها في قيادة الشعب الفلسطيني بكل الوسائل الممكنة. ويبدو أن حماس تعمل على تعزيز قوتها العسكرية داخل مخيمات اللاجئين في لبنان، المعروفة بأنها مدجّجة بالسلاح. ففتح وغيرها من الفصائل الفلسطينية تُخضع اللاجئين لسيطرتها بطرق مختلفة، على رأسها القوة العسكرية. وتفكر حماس وفقًا للمنطق نفسه. في الواقع، يمكنك إدارة جمعيات خيرية، وتنظيم شبكات اجتماعية، وبناء قاعدة دعم، لكن يبقى كل ذلك عرضة للخطر ما لم يتم حمايته بالقوة العسكرية. ويُعتبر وجود حماس في الضفة الغربية مثالًا مريرًا على ذلك، إذ لم تُفضِ شعبيتها بكامل جوانبها تقريبًا، والتي كسبتها بكثير من الجهد والمثابرة، سوى إلى نتائج سياسية قليلة بسبب ضعفها العسكري هناك.

ثمة أيضًا جانب إقليمي ينطوي عليه تعزيز حماس لوجودها في لبنان، ويتعلق بالسياسة الأوسع نطاقًا التي تشمل “محور المقاومة” التابع لإيران. فمن شأن اضطلاع حماس بنفوذ أقوى في مخيمات اللاجئين أن يساعد على تعزيز سيطرة إيران وحزب الله في لبنان. وبما أن الأجواء مليئة اليوم بالتهديدات المتبادلة المتزايدة بين إسرائيل وإيران، تُعتبر المواجهة العسكرية احتمالًا واقعيًا. واستنادًا إلى حجم هذه المواجهة، وما إذا كان لبنان مشمولًا فيها، ترى حماس أن تعزيز وجودها العسكري في لبنان بات ضروريًا.

المصدر: مركز مالكولم كير- كارنيغي للشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى