صباح الياسمين يا دمشق…!  رسالة من التاريخ إلى الحاضر، والمستقبل…! 

حبيب عيسى

     في مطلع العشرينات من القرن المنصرم بُعيد الاحتلال الفرنسي لسورية امتدت يد السوء تحت مبدأ “فرق تسد” إلى إذكاء روح البغضاء بين المواطنين العرب في ساحل بلاد الشام، مسلمين ومسيحيين، ثم طوائف ومذاهب، فحدثت مشادة نتيجة خلاف شخصي في منطقة بانياس الساحلية بين شخصين، انتهت إلى إلحاق الأذى بأحد المنحدرين من ريف بانياس مما أثار غضب أهله وعشيرته، وبغض النظر عن الأسباب، والمسبّب، توجه الغاضبون من الريف “العلوي” إلى مدينة بانياس ذات الأغلبية “السنية” للثأر، حيث اعتدى الغاضبون على البيوت والممتلكات، أحرقوا ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم من مال، وحيوان، وممتلكات، وعادوا بالغنائم إلى قراهم.

      قوات الاحتلال الفرنسي لم تكتف بإنها لم تحرك ساكناً، بل كانت تحرض على المزيد من الفتنة، بينما دعاة العصبويات، والتخلف من كل الأطراف رفعوا رايات الإحتراب والثأر…وغاب صوت العقل، فكان لا بد من حكيم يجنب البلاد الفتنة، وهدر الدماء، والخراب، والدمار…!

      هنا ارتفع صوت قاضي قضاة “جبال اللكام” التي أطلق عليها الاستعمار الفرنسي “جبال العلويين” ليطلق صرخته المدوية، ويعيد الأمور إلى نصابها في وجه العصبويين المتخلفين من جهة، وفي وجه المستعمرين الفرنسيين من جهة أخرى…!

      حيث وقف الشيخ الجليل سليمان أحمد قاضي القضاة في تلك الجبال بما له من سلطة معنوية، وأصدر فتواه الشهيرة الحاسمة التي ننقلها حرفياً، تنص الفتوى، أو قرار الحكم القطعي واجب التنفيذ في كل زمان، ومكان على ما يلي:

“إلى سائر إخواننا من أهل الولاية”

(إن هذه الفوضى خارجة عن الدين والإنسانية معاً، فالواجب على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويوالي العترة الطاهرة أن يبذل وسعه لإرجاع هذه المسلوبات إلى أربابها. ومن منعته الجهالة، والعصبية من الانقياد إلى أمر الله، وطاعة المؤمنين، فليُهجّر، ولا يُعاشر، ولا يجوز أن تُقبل منه صدقة، ولا زكاة، ولا يُصلى عليه إذا مات، حتى يفيء إلى أمر الله، وبما أنه لا قوة لنا على تنفيذ أحكام الشرع الشريف في هذه المسألة، فنحن نفعل ما يجب علينا من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لئلا نقع تحت طائلة الوعيد. فإن المنكر إذا فشا عمّت عقوبته الحُلماء، والسفهاء معاً، فالعقوبة تقع على الحلماء لترك النهي، وعلى السفهاء لعدم التناسي، وإذا وُجد من المشايخ من يتساهل مع أهل الجهالة يُعامل معاملتهم. اللهم إنا نبرأ إليك من هذه الأعمال الجائرة وممن يُقرّها. ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.)

  • خادم الشريعة الإسلامية المقدسة

سليمان أحمد

                 لم يكن بيد الشيخ الجليل أية سلطة زمنية رادعة، فقط كانت سلطته على الوجدان والضمائر، فبعد أن ندد بالفعلة، وعاد بالعقل للتبصّر فيما جرى، فوجئ الجهلة واللصوص بهذا الموقف الحازم، فتم نبذهم، واستهجان ما اقترفته أياديهم الآثمة، فتهافتوا مكرهين على المراكز المخصصة في مدخل مدينة بانياس يعيدون كل ما لديهم من أسلاب ونهائب إلى أصحابها وينادون على الناس لاستعادة ممتلكاتهم، وأمُنّ المسلوبون، والمنهوبون على أنفسهم، واستدعوا لهذه المراكز ليتعّرف كل منهم على دوابه، ومسلوباته، وممتلكاته ويأخذها آمناً مطمئناً، وتمت المصالحة بين أبناء الشعب الواحد.

       إننا نورد هذه الواقعة لنبّين لكل من يعنيهم الأمر أن الشعب في ظروف المحن يحتاج إلى صوت الحكمة والعقل، لمواجهة الغرائز والتوحش والجهالة، لم يتطرق الشيخ الجليل في فتواه لمن تسبّب بالفتنة، ولا لإدانة طرف دون آخر لأنه يرفض تبرير الجهالة بالجهالة، ويرفض تبرير الخطيئة بالخطأ.

       لقد أثار هذا الموقف الحكيم حفيظة “المندوب السامي الفرنسي في اللاذقية”، واستشاط غضباً أكثر عندما أصرّ الشيخ الجليل سليمان أحمد قاضي قضاة “المذهب العلوي الإسلامي” على اعتماد الفقه الإسلامي مصدراُ لأحكام المحاكم المذهبية في جبال العلويين عام 1922 ورفض كافة الضغوط الاستعمارية لاعتماد “العرف والعادة” في الحاكم الشرعية في الجبل، فساء ذلك “الحاكم الفرنسي آنذاك الجنرال “بيّوت” الذي كان يسعى لعزل الجبل، عن محيطه الوطني، والقومي العربي، وذلك إمعاناً في تقسيم ما تبقى من سورية إلى “كونتونات” طائفية، فتوجه إلى قرية الشيخ الجليل سليمان أحمد بموكب حاشد عله يرهبه، وبدأ حديثه يُزيّن للشيخ الجليل الأخذ “بنظام العرف والعادة” في المحاكم الشرعية، وأن “السنة” يكفروّن “العلويين” ولا يعتبرونهم من المسلمين، ويغمز من ناحية الفتاوي التي صدرت في ظروف تاريخية بتكفير “العلويين” والتي تُحرض على قتلهم العلويين وسبي نسائهم وأولادهم … وعندها تبيّن الشيخ الجليل هدف الجنرال الغازي، فانتفض من مقعده مُغضباً ناسياً رهبة السلطان، وجبروته وقال له: “إن الغرض يُعمي ويُصم”، ووقف، كأنه يقول للجنرال حاسماً انتهى اللقاء: (سيادة الجنرال: سواء عبدنا الحجر أو عبدنا المدر، فليقيننا أن هذا هو ما جاء به محمد بن عبد الله، فلشاكّ أن يشك في صحة فهمنا لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا شك في انتسابنا واتباعنا له.) لم يكن الموقف موقفاً حوارياً، وإنما كان موقف حسم، وموقف قرار…فغادر الجنرال بخفي حنين، وهكذا كان …!

رحم الله الشيخ الجليل سليمان أحمد، والرحمة لجميع شيوخنا المتنورين في هذه الأمة… الرحمة للشيخ الجليل محمد عبدو، وللشيخ الجليل جمال الدين الأفغاني، وللشيخ الجليل عبد الرحمن الكواكبي، وللشيخ الجليل محمود شلتوت، وللشيخ الجليل مالك بن نبي …، ولا تتسع المجلدات لتعداد الرموز، القدوة في هذه الأمة العظيمة…لهم الرحمة جميعاً، وللأحياء منهم العمر المديد…!

       والتحية لهذا الجيل العربي الثائر، وإلى رمضان قادم تكون فيه هذه الأمة قد اجتازت محنتها، وامتلكت المقدرة، والإرادة لتحرير أرضها الطهور من رجس الأعداء، لتشيد دولة الكرامة، والحرية، والتقدم، ولتأدية دورها الإنساني في تحرير الإنسانية من مافيات الاستغلال ونهب ثروات الشعوب في هذا العالم…

وصباح الياسمين يا دمشق…!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى